((خَطَرُ الْخِيَانَةِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ))
لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَنَّ عَاقِبَةَ الْخِيَانَةِ سَتَكُونُ وَبَالًا وَخُسْرَانًا عَلَى صَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10].
مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ الَّذِي عَقَدَهُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَنَكَثَ الْبَيْعَةَ، فَإِنَّ وَبَالَ ذَلِكَ وَضَرَرَهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ.
وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ أَخْطَرِ أَلْوَانِ الْخِيَانَةِ؛ قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].
إِنَّ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ عَهْدَ اللهِ وَأَيْمَانَهُمْ كَاذِبِينَ مُقَابِلَ ثَمَنٍ قَلِيلٍ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي أَغْرَتْهُمْ فَأَغْوَتْهُمْ فَيَحْصُلُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْمَتَاعِ الْحَقِيرِ، أُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا حَظَّ لَهُمْ فِي نَعِيمِهَا.
وَلَا يُوَاجِهُهُمُ اللهُ بِالْخِطَابِ عِنْدَ الْحِسَابِ، بَلْ يُحَاسِبُهُمْ كِخِطَابِ الْغَائِبِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَظَرَ رَحْمَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ لِعِظَمِ جَرِيمَتِهِمْ؛ إِذْ كَفَرُوا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كَفَرُوا بِهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ.
وَلَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ، وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ بِجَمِيلٍ، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ فِي الْآخِرَةِ؛ جَزَاءَ كُفْرِهِمْ وَعَدَمِ وَفَائِهِمْ بِعَهْدِ اللهِ، وَجَزَاءَ اسْتِهَانَتِهِمْ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي حَلَفُوهَا وَوَثَّقُوا بِهَا الْعُهُودَ الَّتِي أَعْطَوْهَا لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الْخَاتَمِ وَيَتَّبِعُوهُ.
وَجَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عُقُوبَاتٍ شَدِيدَةً جَزَاءَ نَقْضِ عَهْدِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ قَالَ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13].
فَبِسَبَبِ نَقْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَهْدَ اللهِ الْمُؤَكَّدَ؛ عَاقَبْنَاهُمْ بِعُقُوبَتَيْنِ..
الْأُولَى: أَبْعَدْنَاهُمْ وَطَرَدْنَاهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا.
وَالثَّانِيَةُ: جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ غَلِيظَةً يَابِسَةً، مَنْزُوعَةً مِنْهَا الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ، مَشُوبَةً بِالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَنْ طَالَ عَلَيْهِ الْأَمَدُ فِي الْعِصْيَانِ وَارْتِكَابِ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ وَالْعُدْوَانِ قَسَا قَلْبُهُ، وَجَفَّتْ مَنَابِعُ الرَّحْمَةِ وَالْعَطَاءِ فِيهِ، وَهِيَ نَتِيجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَنْتَهِي إِلَيْهَا هَذِهِ الْقُلُوبُ ضِمْنَ سُنَنِ اللهِ السَّبَبِيَّةِ وَالْجَزَائِيَّةِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِنْ عَوَاقِبِ الْخِيَانَةِ: أَنَّ كُلَّ خَائِنٍ لَا بُدَّ أَنْ تَعُودَ خِيَانَتُهُ وَمَكْرُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52].
وَأَنَّ اللهَ لَا بُدَّ أَنْ يَكْشِفَ كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- لَا يَدَعُ كَيْدَ الْخَائِنِينَ سَاتِرًا لِخِيَانَاتِهِمْ وَمُلْصِقًا التُّهْمَةَ بِالْبَرِيئِينَ.
* وَمِنْ أَخْطَرِ عَوَاقِبِ الْخِيَانَةِ: بُغْضُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْخَائِنِ؛ فَالْخَائِنُ لَا يُحِبُّهُ اللهُ، بَلْ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُهُ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى كُفْرِهِ وَخِيَانَتِهِ، قال -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: ٣٨].
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].
وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107].
* وَمِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ: الْفَضِيحَةُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَعِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يِوَمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ)).
* مِنْ آثَارِ الْخِيَانَةِ: الْوَصْفُ بِالنِّفَاقِ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا--: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)).
فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ؛ مَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْخِصَالِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهَا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ.
((إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))؛ وَذَلِكَ يَتَمَثَّلُ بِجَحْدِ مَا عَلَيْهِ، وَبِادِّعَاءِ مَا لَيْسَ لَهُ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ خَائِنٌ.. خَانَ الْأَمَانَةَ، يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَجْحَدُ مَا عَلَيْهِ.
((وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ)): فَلَا ذِمَّةَ لَهُ تَقُومُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْغَدْرُ عِنْدَ الْعَهْدِ، وَالنَّقْضُ لِلْوَعْدِ، وَعَدَمُ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ النِّفَاقُ بِخَصْلَتِهِ.
وَالنِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ النُّفُوسِ الْمَرِيضَةِ وَالْقُلُوبِ السَّقِيمَةِ, لَا تَجِدُ الرَّجُلَ صَاحِبَ الْمُرُوءَةِ يُنَافِقُ أَبَدًا!!
المصدر:مَعَانِي الْخِيَانَةِ وَخَطَرُهَا عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ