((آدَابُ الْحِوَارِ فِي الْإِسْلَامِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! مِنَ الْآدَابِ الَّتِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاعِيَهَا وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِهَا: آدَابُ الْحِوَارِ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
وَجَادِلْهُم بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَدَبًا وَتَهْذِيبًا وَقَوْلًا وَفِكْرًا، وَتَابِعْ دَعْوَةَ مَنْ لَمْ تُثْبِتِ التَّجْرِبَةُ الطَّوِيلَةُ أَنَّهُمْ مَيْئُوسٌ مِنَ اسْتِجَابَتِهِمْ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ وَحْدَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ضَلَالًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِاسْتِعْدَادٍ مِنْ عُمْقِ نَفْسِهِ بِالِاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ بَعْدَ حِينٍ، وَهُوَ وَحْدَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ لَدَيْهِ اسْتِعْدَادٌ لِأَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا مِنَ الْمُهْتَدِينَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}؛ أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.
فَالْحَسَنُ مِنَ الْقَوْلِ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللهُ، وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَهُ اللهُ».
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53].
وَقُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِعِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا دَوَامًا الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا يَنْطِقُونَ بِهِ.
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْقَوْلَ الطَّيِّبَ الْحَسَنَ لَا يَذْهَبُ سُدًى، وَلَا يَضِيعُ بَدَدًا، بَلْ صَاحِبُهُ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ مُثَابٌ عَلَى قَوْلِهِ، فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».
وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ)).
فَالْفَاحِشُ الْبَذِيءُ مَبْغُوضٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَعَنْ أُسَامَةَ بَنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ فَاحِشٍ مُتَفَحِّشٍ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).
وَالْفَاحِشُ: ذُو الْفُحْشِ فِي كَلَامِهِ وَفَعَالِهِ.
وَالْمُتَفَحِّشُ: الَّذِي يَتَكَلَّفُ ذَلِكَ وَيَتَعَمَّدُهُ.
مِنَ الْآدَابِ -عِبَادَ اللهِ-: مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّأَدُّبِ فِي الْمُحَاوَرَةِ؛ فَالْمُسْلِمُ يَجْلِسُ جِلْسَةَ الْمُتَأَدِّبِ الْوَقُورِ, يُنْصِتُ إِلَى كَلَامِ الْمُتَحَدِّثِينَ مَا لَمْ يَتَحَدَّثُوا بِإِثْمٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ, وَلَا يُقَاطِعُ أَحَدًا أَثْنَاءَ حَدِيثِهِ.
وَإِذَا تَحَدَّثَ كَانَ كَلَامُهُ لَطِيفًا, فَيَسْمَعُ مَنْ حَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ, قَالَ تَعَالَى: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].
وَإِذَا عَرَضَ الْمُسْلِمُ رَأْيَهُ عَرَضَهُ بِهُدُوءٍ وَوُضُوحٍ حَتَّى يَفْهَمَهُ النَّاسُ, فَإِذَا رَأَى أَنْ يُعِيدَ كَلَامَهُ لِيَفْهَمَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ أَعَادَهُ, وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا)) كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ))؛ حَتَّى يَفْهَمَهَا الْمُسْتَمِعُ.
وَقَدْ وَصَفَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَلَامَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِقَوْلِهَا: ((كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ: ((أَيْ: لَوْ أَرَادَ الْمُسْتَمِعُ عَدَّ كَلِمَاتِهِ أَوْ حُرُوفِهِ لَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِسُهُولَةٍ, وَمِنْهُ أُخِذَ أَنَّ عَلَى الْمُدَرِّسِ أَلَّا يَسْرُدَ الْكَلَامَ سَرْدًا, بَلْ يُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا, وَيَتَمَهَّلُ لِيَتَفَكَّرَ فِيهِ هُوَ وَسَامِعُهُ, وَإِذَا فَرَغَ مِنْ مَسْأَلَةٍ أَوْ فَصْلٍ سَكَتَ قَلِيلًا لِيَتَكَلَّمَ مَنْ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ)).
قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((لَمْ يَكُنْ ﷺ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَمِنَ الْآدَابِ الَّتِي عَلَى الْمُسْلِمِ مُرَاعَاتُهَا: أَنْ يَحْرِصَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْآخَرِينَ, وَاحْتِرَامِ رَأْيِ جُلَسَائِهِ, وَلَا يُطِيلُ الْكَلَامَ وَيَسْتَأْثِرُ بِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْبَعْضُ -هَدَاهُمُ اللهُ- حَتَّى لَا يَمَلَّ النَّاسُ حَدِيثَهُ وَمَجْلِسَهُ.
((أَدَبُ التَّعَامُلِ مَعَ الْأَخْبَارِ وَالشَّائِعَاتِ))
عِبَادَ اللهِ! مَنْ نَظَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ خَاصَّةً, وَفِي التَّارِيخِ عَامَّةً؛ يَعْلَمُ يَقِينًا مَا لِلشَّائِعَاتِ مِنْ خَطَرٍ عَظِيمٍ، وَأَثَرٍ بَلِيغٍ، فَالشَّائِعَاتُ تُعْتَبَرُ مِنْ أَخْطَرِ الْأَسْلِحَةِ الْفَتَّاكَةِ وَالْمُدَمِّرَةِ لِلْمُجْتَمَعَاتِ وَالْأَشْخَاصِ.
وَكَمْ أَقْلَقَتِ الْإِشَاعَةُ مِنْ أَبْرِيَاءَ, وَحَطَّمَتْ عُظَمَاءَ، وَهَزَمَتْ مِنْ جُيُوشٍ، وَهَدَمَتْ مِنْ وَشَائِجَ، وَتَسَبَّبَتْ فِي جَرَائِمَ, وَفَكَّكَتْ مِنْ عَلَاقَاتٍ وَصَدَاقَاتٍ، وَأَخَّرَتْ مِنْ سَيْرِ أَقْوَامٍ!!
لِخَطَرِهَا وَجَدْنَا الدُّوَلَ تَهْتَمُّ بِهَا، وَالْحُكَّامَ يَرْقُبُونَهَا، مُعْتَبِرينَ إِيَّاهَا مِقْيَاسَ مَشَاعِرِ الشَّعْبِ نَحْوَ الْإِدَارَةِ صُعُودًا وَهُبُوطًا، وَبَانِينَ عَلَيْهَا تَوقُّعَاتِهِمْ لِأَحْدَاثٍ مَا, سَوَاءٌ عَلَى الْمُسْتَوَى الْمَحَلِّيِّ أَوِ الْمُسْتَوَى الْخَارِجِيِّ.
وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كَفَى بِالْمَرْءِ إِثمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((مُقَدِّمَةِ الصَّحِيحِ)).
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: «اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)).
وَأَثَرُ الشَّائِعَاتِ سَيِّئٌ جِدُّ سَيِّئٍ, وَيَنْتُجُ عَنْهَا غَالِبًا آثَارٌ أُخْرَى أَسْوَءُ مِنْهَا.
وَالَّذِي يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ عِنْدَ سَمَاعِهِ الْإِشَاعَاتِ وَالْأَخْبَارِ:
*يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَأَنْ يَتَرَوَّى فِي تَلَقِّي الْأَخْبَارِ وَالرِّوَايَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا, وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَدْ دَلَّتْ هَذهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ عَلَى أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ الْفَاسِقَ إِنْ جَاءَ بِنَبَإٍ مُمْكِنٍ مَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهِ، وَهَلْ مَا قَالَهُ فِيهِ الْفَاسِقُ حَقٌّ أَوْ كَذِبٌ، فَإِنَّه يَجِبُ فِيهِ التَّثَبُّتُ.
وَالثَّانِي: هُوَ مَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَا أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} يَدُلُّ بِدَليلِ خِطَابِهِ -أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ- أَنَّ الْجَائِيَ بِنَبَإٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ فَاسِقٍ بَلْ عَدْلًا لَا يَلْزَمُ التَّبَيُّنُ فِي نَبَئِهِ عَلَى قِرَاءَةِ: {فَتَبَيَّنُوا}، وَلَا التَّثَبُّتُ عَلَى قِرَاءَةِ: {فَتَثَبَّتُوا}، -قَالَ:- وَهُوَ كَذَلِكَ)).
*وَأَنْ يُقَدِّمَ حُسْنَ الظَّنِّ بِأَخِيِهِ الْمُسْلِمِ، وَأَنْ يُنْزِلَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِمَنْزِلَتِهِ.
*وَأَلَّا يَتَحَدَّثَ بِمَا سَمِعَهُ وَلَا يَنْشُرَهُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ لَمَاتَتْ فِي مَهْدِهَا، وَلَمْ تَجِدْ مَنْ يُحْيِيهَا إِلَّا مِنَ الْمُنَافِقِينَ: {ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16].
*وَأَنْ يُرَدَّ الْأَمْرُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَلَا يُشِيعُ النَّاسُ بَيْنَ النَّاسِ الشَّائِعَاتِ، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ فِي كُلِّ الْأَخْبَارِ الْمُهِمَّةِ، وَالَّتِي لَهَا أَثَرُهَا الْوَاقِعِيُّ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 83].
*وَتَعَامَلَ الْقُرْآنُ مَعَ الْإِشَاعَةِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ تَرْدِيدِهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ أَوْ وَعْيٍ وَإِحَاطَةٍ بِأَبْعَادِهَا وَأَهْدَافِهَا: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [النور: 15-17].
*وَتُعَامَلُ الشَّائِعَاتُ بِالصَّمْتِ، وَعَدَمِ الْخَوْضِ فِيهَا: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ».
فَالْإِنْسَانُ لَا يَخْسَرُ بِالسُّكُوتِ شَيْئًا، كَمَا يَخْسَرُ حِينَ يَخُوضُ فِيمَا لَا يُحْسِنُهُ أَوْ يَتَدَخَّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ.
وَفِي «الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ»: عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «لَا تَكُونُوا عُجُلًا مَذَايِيعَ بُذْرًا، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ بَلَاءً مُبَرِّحًا مُبْلِحًا، وَأُمُورًا مُتَمَاحِلَةً رُدُحًا». وَهُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلُوا فِي إِذَاعَةِ الْأَشْيَاءِ وَالْأَخْبَارِ وَالْفَوَاحِشِ، وَلَا تُفْشُوا الْأَسْرَارَ، فَهُنَاكَ بَلَاءٌ شَدِيدٌ شَاقٌّ يَنْتَظِرُكُمْ، وَفِتَنٌ ثَقِيلَةٌ تَتَرَقَّبُكُمْ، فَلَا تُسْهِمُوا فِي صُنْعِ الْفِتَنِ وَالرَّزَايَا.
فَحَذَارِ أَنْ تَكُونُوا عَيَّابِينَ بِإشَاعَةِ وَإِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّهُ يَصْعُبُ الرُّجُوعُ عَنْهَا، وَلَا تَزْدَادُ الْفِتَنُ بِهَا إِلَّا تَوَقُّدًا وَشِدَّةً.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّيًا، فَلَا يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يَسْمَعُ، فَمَا أَكْثَرَ الْكَذِبَ فِي النَّاسِ!
وَمَا أَحْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَيَّامِ الْفِتَنِ بِالْتِزَامِ هَذَا النَّهْجِ الشَّرِيفِ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ مُقْتَبِسٌ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَثَبَّتَ، وَلَا يَقُولَ وَلَا يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ».
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «مُقَدِّمَةِ الصَّحِيحِ»، وَأَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ».
«وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُشِيعُونَ كُلَّ مَا يَسْمَعُونَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَدُورُونَ بِهِ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ وَالنَّوَادِي، بَلْ إِنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ قَدْ غُنُوا عَنْ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي ذَلِكَ فِي هَذَا الْعَصْرِ لَمَّا سَبَقَتِ الشِّقْوَةُ عَلَيْهُمْ.
فَإِنَّ الْوَاحِدَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي خَلْوَتِهِ مُخَاطِبًا الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَيَنْشُرُ الْأَكَاذِيبَ، وَيُشِيعُ الْفَاحِشَةَ فِي الدُّنْيَا بِأَرْجَائِهَا عَنْ طَرِيقِ الْوَسَائِلِ الْحَدِيثَةِ فِي الْمَعْلُومَاتِ وَالِاتِّصَالَاتِ».
المصدر: الْآدَابُ وَالْحُقُوقُ الْعَامَّةُ لِلْمُجْتَمَعِ وَأَثَرُهَا فِي رُقِيِّهِ وَبِنَاءِ حَضَارَتِهِ