((مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ:
الصَّدَقَاتُ وَالْجُودُ))
لِلصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ مَزِيَّةٌ وَخُصُوصِيَّةٌ؛ فَيُبَادِرُ إِلَيْهَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، وَيَحْرِصُ عَلَى أَدَائِهَا بِحَسَبِ حَالِهِ، وَلِلصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنْ أَبْلَغِ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ بَلَاغَةً وَبَلَاغًا فِي الْوُصُولِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ، وَسَيْأَتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَسْطٍ -إِنْ شَاءَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا-؛ إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وسَقْيُ الْمَاءِ.
إِطْعَامُ الطَّعَامِ يَجْعَلُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وِقَايَةً وَجُنَّةً مِنَ الْآثَامِ وَالشُّرُورِ؛ فَإِنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ».
وَالسَّلَفُ كَانُوا أَجْوَدَ الْخَلْقِ تَبَعًا لِنَبِيِّهِمْ ﷺ فِي بَذْلِ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَكِسْوَةٍ، وَفَضْلِ زَادٍ، فِي سَبِيلِ تَحْصِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيُّ ﷺ رَغَّبَ فِي تَفْطِيرِ الصَّائِمِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَسَقْيِ المَاءِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا)) .
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟
قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) بِسَنَدَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ -وَأَجْوَدَ، بِالضَّمِّ، وَالْفَتْحِ مَعًا، وَالضَّمُّ أَشْهَرُ وَأَفْصَحُ- مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَلنَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ مَنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)).
هَذَا الْحَدِيثُ بَيَّنَ لَنَا فِيهِ عَبْدُ اللهِ بِنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَوْلِهِ وَحَالِهِ؛ لِأَنَّ الْجُودَ إِنَّمَا هُوَ بَذْلُ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ، وَالْعَمَلِ، وَالْجَاهِ أَيْضًا.
الْجُودُ: بَذْلُ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ؛ صَدَقَةً لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهَدِيَّةً لِلْأَغْنِيَاءِ، وَمُوَاسَاةً لِلْمُحْتَاجِينَ، فَبَذْلُ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ، وَبَذْلُ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْعَمَلِ؛ كَإِعَانَةِ الْأَخْرَقِ، وَالسَّعْيِ فِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيلِ؛ مِنَ الْعَمَلِ بِالْخَيرِ، مِنْ أَجْلِ إِيصَالِهِ لِلْغَيْر، كَمَا بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فِي كَثْرَةِ تَعَدُّدِ سُبُلِ الْخَيْرِ مَمْهُودَةً، وَمُحَصَّلَةً -أَيْضًا-.
وَكَذَلِكَ بَذْلُ الْجَاهِ شَفَاعَةً -فِيمَا لَا يُغْضِبُ اللهَ، وَلَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ- لِمَنْ لَا جَاهَ لَهُ، فَهَذَا جُودٌ -أَيْضًا-، فَالْجُودُ: بَذْلُ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ، وَالْعَمَلِ، وَالْجَاهِ.
((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ))، كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِذَلِكَ جَمِيعِهِ، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ كَانَ يَشْفَعُ لِلرَّجُلِ إِذَا مَا قَلَتْهُ امْرَأَتُهُ شَرْعًا؛ فَإِنَّ بَرِيرَةَ لَمَّا مَنَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا بِالْحُرِّيَّةِ فَأُعْتِقَتْ، كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، وَلَهَا الْخِيَارُ -حِينَئِذٍ- أَنْ تَكُونَ تَحْتَهُ وَأَنْ تُفَارِقَهُ، فَرَأَتْ فِرَاقَهُ، فَذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ يَسْتَشْفِعُ بِهِ لَدَيْهَا، فَكَلَّمَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ وَأَنْ تُعَاوِدَهُ.
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: ((لَا، إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ)).
فَقَالَتْ: لَا أُرِيدُهُ.
فَكَانَ يَدُورُ وَرَاءَهَا فِي الْأَسْوَاقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْهَا-، يَتَتَبَّعُهَا يَبْكِي من مَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا، وَمَنْ جَفَائِهَا لَهُ.
فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ مُعَجِّبًا أَصْحَابَهُ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ: ((أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟!!)).
((الْقُلُوبُ بِيَدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَقُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ)) .
وَلَكِنِ انْظُرْ كَيْفَ سَعَى بِجَاهِهِ ﷺ وَمَنْزِلَتِهِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْقُلُوبِ -كَمَا تَرَى-؟!!
((فَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ لِيُدَارِسَهُ الْقُرْآنَ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَى النَّبِيَّ ﷺ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ، يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَهُوَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)).
وَأَنَّى مِنْ جُودِهِ الرِّيحُ الْمُرْسَلَةُ ﷺ؟!!
فَالْجُودُ مِنْ خِصَالِ هَذَا الشَّهْرِ، خَصِيصَةٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ هَذَا الْجُودُ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَجْعَلْهُ سَائِرًا هَكَذَا نَافِلَةً كَفَافًا يَمُرُّ لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ: ((أَنَّ مَنْ فَطَّرَ فِي هَذَا الشَّهْرِ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ)) .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ بِبَذْلِ هَذَا الْجُودِ مِمَّا تُحِبُّهُ النَّفْسُ، فَأَعْطَى أَخَاهُ -وَلَوْ شِقَّ تَمْرَةٍ لِيُفْطِرَ عَلَيْهَا- تَحَصَّلَ عَلَى مِثْلِ أَجْرِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ، كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ.
وَنَعْلَمُ قُلُوبًا غُلْفًا، الْقَلْبُ فِي غُلَافِهِ صَارَ أَغْلَفَ، وَهَذَا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ خَيْرٌ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَى مُسْلِمٍ عَنْ طَرِيقِهِ ذَرَّةٌ مِنْ خَيْرٍ، فَلَرُبَّمَا أَعْطَيْتَهُ تَمْرَةً لِيُفْطِرَ عَلَيْهَا، لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ، وَتَتَحَصَّلُ عَلَى مِثْلِ أَجْرِهِ -كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ- فَيَضِنُّ بِذَلِكَ عَلَيْكَ!! وَيَأْتِي بِهَذَا الْأَمْرِ -وَهُوَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنِ الْخَيْرِ- يَضِنُّ عَلَيْكَ بِأَنْ يُفْطِرَ عَلَى مَا تُقَدِّمُهُ لَهُ لِيُفْطِرَ عَلَيْهِ لِتَتَحَصَّلَ عَلَى الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ.
النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةٌ مُلْتَوِيَةٌ جَدًّا!!
وَمَسَارِبُهَا مُعَقَّدَةٌ جِدًّا!!
وَالْإِنْسَانُ قَدْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَكْمَنِ الدَّافِعِ الَّذِي يَكْمُنُ وَرَاءَ فِعْلِهِ.. لَا يَسْتَطِيعُ، فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ لَا يَسْتَطِيعُ، بَلْ إِنَّ الْمُؤْمِنَ النَّاصِحَ الشَّفِيقَ الَّذِي يَضِنُّ بِدِينِهِ، وَالَّذِي هُوَ شَحِيحٌ بِإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ لَا يَسْتَطِيعُ -أَيْضًا- أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَكْمَنِ الدَّافِعِ وَرَاءَ الْفِعْلِ الَّذِي يَفْعَلُهُ.
بَلْ أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْخَيْرِ لِمَنْ يَبْذُلُونَ الْخَيْرَ؛ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60].
فَإِذَا مَا عُرِضُوا عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِذَا مَا فُتِّشَ فِي السَّرَائِرِ، وَعُلِمَ مَا فِي الضَّمَائِرِ، وَبَانَ ظَاهِرًا مَا وَرَاءَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ مِنَ الدَّوَافِعِ وَالنَّيَّاتِ؛ حِينَئِذٍ يَعْلَمُ الْمَرْءُ أَكَانَ عَلَى الْحَقِّ، وَالْحَقِيقَةِ، أَمْ كَانَ مِنْ أَضَلِّ الْخَلِيقَةِ، وَكَانَ بَعِيدًا عَنِ الْمَعْرُوفِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا!!
هَذِهِ الْأُمُورُ يُبَيِّنُهَا لَنَا الرَّسُولُ ﷺ، وَيَجْعَلُ لَنَا مِنَ الْعَلَامَاتِ اللَّائِحَاتِ الظَّاهِرَاتِ مَا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَا وَرَاءَ الْأَعْمَالِ مِنَ النِّيَّاتِ الْكَّامِنَاتِ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قِيلَ لَهُ: ((إِنَّ فُلَانَةَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ -وَقَدْ حُذِفَ الْمَعْمُولُ كَمَا تَرَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّهْوِيلِ- وَتَعْمَلُ، وَتَصَّدَّقُ -وَحُذِفَ مَا تَعْمَلُهُ، وَحُذِفَ مَا تَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لتَهْوِيلِهِ، وَتَعْظِيمِهِ، وَتَفْخِيمِهِ- وَتَعْمَلُ وَتَصَّدَّقُ، وَلَكِنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا)).
قَالَ: ((لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ!)).
وَقِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي الْخَمْسَ، تَصُومُ الشَّهْرَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلَكِنَّهَا لَا تُؤْذِي أَحَدًا)).
((تَصَّدَّقَ بِأَثْوَارٍ)): جَمْعُ ثَوْرٍ، وَهُوَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَقِطِ، أَوْ مِنَ الْجُبْنِ الْمُجَفَّفِ، فَهِيَ تَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَلَمَّا عُلِمْتُ بِانَتْ قَلِيلَةً، ((وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ)): وَلَعَلَّ التَّنْكِيرَ هَاهُنَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْلِيلِ لَا عَلَى ضِدِّهِ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا.. لَا تُؤْذِي أَحَدًا بِلِسَانِهَا.
قَالَ: ((هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
فَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ وَرَاءَ الْعِبَادَاتِ، وَوَرَاءَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَاتِ دَوَافِعَ، وَهَذِهِ الدَّوَافِعُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ الثَّمَرَةَ الَّتِي يَتَحَصَّلُ عَلَيْهَا الْمَرْءُ مِنْ وَرَاءِ الْعِبَادَةِ هُوَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ التَّقْوَى بِالصِّيَامِ.
فَإِذَا كَانَ مُتَّقِيًا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، آخِذًا بِزِمَامِ نَفْسِهِ؛ لِيَحْمِلَهَا عَلَى الْجَادَّةِ، وَلِيَأْطُرَهَا عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، فَإِنَّهُ عَلَى الْخَيْرِ -بِإِذْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى--، وَإِنَّهُ لَيُؤَمِّلُ الْخَيْرَ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.
فُلَانَةُ تَصُومُ شَهْرَهَا، وَتَقُومُ مَا تَيَسَّرَ؛ يَعْنِي تَأْتِي بِتِلْكَ الرَّوَاتِبِ الَّتِي رَتَّبَهَا الرَّسُولُ ﷺ؛ تُصَلِّي الْفَرْضَ، وَتَصُومُ الْفَرْضَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَّسِعُ لَهُ الْحَالُ وَالْجَهْدُ، وَلَكِنَّهَا لَا تُؤْذِي أَحَدًا؛ أَثْمَرَتِ الْعِبَادَةُ فِيهَا هَذِهِ الثَّمَرَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى رَجَاءِ الْقَبُولِ، بَلْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَّ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى الْقَبُولِ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ ﷺ؛ لِأَنَّهُ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
قَالَ: ((هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
وَأَمَّا الْأُولَى، ((فَإِنَّهَا تَصُومُ النَّهَارَ -هَكَذَا- تَقُومُ اللَّيْلَ -هَكَذَا- تَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَلَكِنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا)).
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ)) .
((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ))؛ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحِلْمِ مِمَّا يَتَأَتَّى مِنَ النَّزَقِ وَالسَّفَهِ وَالطَّيْشِ، مَنْ لَمْ يَدَعْ ذَلِكَ؛ مَنْ لَمْ يَتْرُكْهُ ((فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) .
وَكَأَنَّهُ ﷺ يُومِئُ إِلَى الْأَمْرِ الْخَطِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بِخَبِيئَتِهِ ﷺ، ((فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَمَسَّهُ بِعَطَشٍ وَلَا جُوعٍ مَسًّا مُجَرَّدًا، وَإِنَّمَا مَسًّا مُثْمِرًا، فَإِذَا لَمْ يُثْمِرْ، فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا، ((فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).
لِأَنَّ الْحَاجَةَ الَّتِي يُرِيدُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ وَرَاءِ وَدَعِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَرْكِهِمَا: هُوَ هَذَا الَّذِي لَمْ يَتَخَلَّ عَنْهُ الصَّائِمُ بِزَعْمِهِ؛ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يُرِيدُ مِنْهُ أَنْ يَدَعَ قَوْلَ الزُّورِ، وَأَنْ يَدَعَ الْعَمَلَ بِهِ، وَأَنْ يَدَعَ الْجَهْلَ، يُرِيدُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ أَلَّا يَرْفُثَ، وَأَلَّا يَصْخَبَ، وَأَنْ يَكُونَ مُنْضَبِطًا، وبِقَانُونِ الشَّرْعِ مُلْتَزِمًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَدَعَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْأُمُورِ.
فَإِذَا لَمْ يُحَصِّلْهَا، فَمَاذَا صَنَعَ؟!!
عَذَّبَ نَفْسَهُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ!!
((وَكَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ!!)).
كَمْ مِنْ صَائِمٍ! لَا يُحْصَوْنَ عَدَدًا! كَثِيرٌ هُمْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ!!
((وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ))!
فَهَذَا شَهْرٌ يَظْهَرُ فِيهِ الْجُودُ، وُجُودُ النَّبِيِّ ﷺ ظَاهِرٌ فِي كُلِّ آنٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَلَكِنَّهُ ﷺ كَانَ يُظْهِرُ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَتَأَسَّى بِهِ الْأُمَّةُ -وَهُوَ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ ﷺ-، وَأَمَّا جُودُهُ وَعَطَاؤُهُ فَلَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى رَمَضَانَ، وَإِنَّمَا كَانَ مَبْذُولًا فِي كُلِّ الْعَامِ.
وَكَانَ مَنْ يَأْتِيهِ -حَتَّى مَنَ الْكُفَّارِ- يَعُودُ بِحِلْيَتِهِ إِلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْكَافِرِينَ؛ لِيَقُولَ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ ﷺ، هُوَ أَسْخَى النَّاسِ قَطُّ ﷺ، يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ ﷺ ، يُعْطِي عَطَاءً لَا يُعْطِيهِ إِلَّا نَبِيٌّ؛ لِتَوَكُلِّهِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلِعِلْمِهِ أَنَّ الْعَطَاءَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ مُعْطٍ))؛ يَعْنِي هُوَ يَقْسِمُ مَا أَعْطَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَالَّذِي يُعْطِي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَالَنَّبِيُّ ﷺ مِنْ وَصْفِ حَالِهِ وَفَعَالِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- نَخْرُجُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْفَوَائِدِ:
*وَأَوَّلُ ذَلِكَ: هُوَ مُزَاوَلَةُ الْجُودِ فِي رَمَضَانَ؛ فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمَسَاكِينِ؛ مَنَ الْأَيْتَامِ، وَالْأَرَامِلِ، وَالْمُحْتَاجِينَ، وَأَنْ يُعَوِّدَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَى الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ؛ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ لَهُ خُلُقًا وَسَجِيَّةً، وَيَصِيرَ فِي الْحَيَاةِ لَهُ مَسْلَكًا وَدَيْدَنًا؛ وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ -الَّذِي رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَخْرَجَهُ الضِّيَاءُ فِي ((الْمُخْتَارَةِ))، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ- قَالَ: ((إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» .
وَالْسَّفْسَافُ: مَا تَطَايَرَ عَنِ الرَّحَى عِنْدَ الطَّحْنِ، أَوْ مَا أَثَارَتْهُ سَنَابِكُ الْخَيْلِ عِنْدَ السَّيْرِ وَالْجِرْيِ وَالْعَدْوِ، فَمَا يَتَطَايَرُ مِنْ ذَلِكَ الْغُبَارِ هُوَ تِلْكَ السَّفَاسِفُ، لَا يُحِبُّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يُحِبُّ مَنْ أَتَى بِهَا.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ))، وَالْجُودُ: بَذَلُ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ وَالْعَمَلِ وَالْجَاهِ -أَيْضًا-، فَاحْرِصْ عَلَى أَنْ تَبْذُلَ هَذَا فِي رَمَضَانَ؛ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ لَكَ سَجِيَّةً بَعْدَ رَمَضَانَ بِفَضْلِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، الْكَرِيمِ الدَّيَّانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ الْمُتَّقِي إِذَا مَا صَامَ رَمَضَانَ كَمَا يَنْبَغِي.
المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ