تَقْدِيمُ مَصَالِحِ النَّاسِ الْعَامَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ


 

 ((تَقْدِيمُ مَصَالِحِ النَّاسِ الْعَامَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ))

*مَنِ دَلَائِلِ تَقْدِيمِ النَّبِيِّ ﷺ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ: حَثُّهُ ﷺ عَلَى إِعْمَارِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا.

فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ؛ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.

*وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ؛ فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُدْخِلَ النَّفْعَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى غَيْرِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

عِبَادَ اللهِ! هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَظَاهِرُهُ تَحْرِيمُ سَائِرِ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ إِلَّا لِدَلِيلٍ، فَيَحْرُمُ عَلَيْكَ أَنْ تُدْخِلَ النَّفْعَ عَلَى نَفْسِكَ، وَتُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى غَيْرِكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ.

فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْكَرِيمِ.

قَوْلُهُ ﷺ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)): قِيلَ: إِنَّ الضَّرَرَ هُوَ الِاسْمُ، وَالضِّرَارَ الْفِعْلُ؛ فَالْمَعْنَى أَنَّ الضَّرَرَ نَفْسَهُ مُنْتَفٍ فِي الشَّرْعِ، وَإِدْخَالَ الضَّرَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَذَلِكَ.

 وَقِيلَ: الضَّرَرُ: أَنْ يُدْخِلَ عَلَى غَيْرِهِ ضَرَرًا بِمَا يَنْتَفِعُ هُوَ بِهِ، وَالضِّرَارُ: أَنْ يُدْخِلَ عَلَى غَيْرِهِ ضَرَرًا بِمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ بِهِ.

وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ طَائِفَةٌ، مِنْهُمُ: ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الصَّلَاحِ.

وَقِيلَ: الضَّرَرُ أَنْ يُضِرَّ بِمَنْ لَا يَضُرُّهُ.

وَالضِّرَارُ: أَنْ يُضِرَّ بِمَنْ قَدْ أَضَرَّ بِهِ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ جَائِزٍ.

 وَبِكُلِّ حَالٍ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ نَفَى الضَّرَرَ وَالضِّرَارَ بِغَيْرِ حَقٍّ.

فَأَمَّا إِدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَى أَحَدٍ بِحَقٍّ؛ إِمَّا لِكَوْنِهِ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ؛ فَيُعَاقَبُ بِقَدْرِ جَرِيمَتِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ ظَلَمَ غَيْرَهُ فَيَطْلُبُ الْمَظْلُومُ مُقَابَلَتَهُ بِالْعَدْلِ؛ فَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ قَطْعًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَا عَلَى نَوْعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَكُونَ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ سِوَى الضَّرَرِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ، فَهَذَا لَا رَيْبَ فِي قُبْحِهِ وَفِي تَحْرِيمِهِ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ النَّهْيُ عَنِ الْمُضَارَّةِ فِي مَوَاضِعَ؛ مِنْهَا:

فِي الْوَصِيَّةِ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12].

 وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ)).

وَالْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى فَرْضِهِ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ لَهُ، فَيَتَضَرَّرُ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِتَخْصِيصِهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الْإِرْوَاءِ)) وَغَيْرِهِ.

 وَتَارَةً بِأَنْ يُوصِيَ لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ؛ فَتَنْقُصَ حُقُوقُ الْوَرَثَةِ، لِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)).

 وَكَذَلِكَ مِنَ الْمُضَارَّةِ: مَا يَكُونُ فِي الرَّضَاعِ: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233].

قَالَ مُجَاهِدٌ: «لَا يَمْنَعُ أُمَّهُ أَنْ تُرْضِعَهُ؛ لِيُحْزُنَهَا».

وَمِنْهَا فِي الْبَيْعِ: قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَعْقِلٍ: «بَيْعُ الضَّرُورَةِ رِبًا».

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ غَرَضٌ آخَرُ صَحِيحٌ، مِثْلُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ، فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى ضَرَرِ غَيْرِهِ، أَوْ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ تَوْفِيرًا لَهُ؛ فَيَتَضَرَّرُ الْمَمْنُوعُ بِذَلِكَ.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ بِمَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى غَيْرِهِ: فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ كَأَنْ يُؤَجِّجَ فِي أَرْضِهِ نَارًا فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَيَحْتَرِقَ مَا يَلِيهِ، فَإِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: الْمَنْعُ.

وَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ أَنْ يَفْتَحَ كُوَّةً فِي بِنَائِهِ الْعَالِي مُشْرِفَةً عَلَى جَارِهِ، أَوْ يَبْنِيَ بِنَاءً عَالِيًا يُشْرِفُ عَلَى جَارِهِ وَلَا يَسْتُرُهُ، فَإِنَّهُ يُلْزَمُ بِسَتْرِهِ.

وَهَذَا شَائِعٌ جِدًّا فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَالنَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِهِمْ!! وَحَتَّى إِذَا مَا رَاجَعَ جَارٌ جَارَهُ فَإِنَّهُ يَتَعَجَّبُ مِنْ هَذَا الطَّلَبِ، وَيَقُولُ: كَيْفَ تَمْنَعُنِي مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِي، وَلَكِنْ يُلْزَمُ بِسِتْرِهِ!!

 وَمِنْهَا أَنْ يُحْدِثَ فِي مِلْكِهِ مَا يُضِرُّ بِمِلْكِ جَارِهِ مِنْ هَزٍّ أَوْ دَقٍّ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ أَيْضًا.

وَأَمَّا الثَّانِي- وَهُوَ مَنْعُ الْجَارِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَالِارْتِفَاقِ بِهِ- فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُضِرُّ بِمَنِ انْتَفَعَ بِمِلْكِهِ؛ فَلَهُ الْمَنْعُ، كَمَنْ لَهُ جِدَارٌ وَاهٍ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُطْرَحَ عَلَيْهِ خَشَبٌ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يُضَرَّ بِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ ﷺ: ((لَا ضَرَرَ))؛ أَنَّ اللهَ لَمْ يُكَلِّفْ عِبَادَهُ فِعْلَ مَا يَضُرُّهُمُ الْبَتَّةَ، فَإِنَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ هُوَ عَيْنُ صَلَاحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ هُوَ عَيْنُ فَسَادِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.

فَهَذَا الْحَدِيثُ -كَمَا مَرَّ- أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

المصدر:تَقْدِيمُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْخَاصَّةِ وَأَثَرُهَا فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعَاتِ وَبِنَاءِ الدُّوَلِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  وِقَايَةُ الْأَوْلَادِ مِنَ النَّارِ بِتَعْلِيمِهِمُ الِاعْتِقَادَ الصَّحِيحَ
  الْمُسْلِمُونَ جَسَدٌ وَاحِدٌ
  مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: الْإِحْسَانُ وَالرَّحْمَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ
  الْجَيْشُ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ كُلُّ الْأُمَّةِ
  نِظَامٌ مُحْكَمٌ لِلْمُعَامَلَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ
  عِلَاجُ طُولِ الْأَمَلِ
  خُطُورَةُ التَّسَتُّرِ عَلَى الْإِرْهَابِيِّينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْعَصِيبِ
  فَضَائِلُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَشَرَفُ حَمَلَتِهِ
  إِدْمَانُ الْإِنْتَرْنِت وَمَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ!!-الشيخ محمد سعيد رسلان
  الصِّدْقُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ، وَمِنْ صِفَاتِ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ
  الْمُعَامَلَةُ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَالْعَدْلِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَالِمِينَ
  مَحَبَّةُ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلُهُ وَهُوَ صَائِمٌ
  اسْتِيعَابُ السُّنَّةِ الْمُسْتَجَدَّاتِ فِي كُلِّ الْعُصُورِ
  تَقْدِيمُ مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ
  • شارك