((حِيَاطَةُ الشَّرْعِ لِلْعَقْلِ))
إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ إِنَّمَا هُوَ مِلْكٌ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَمْ يَخْلُقْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَبَثًا، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْهُ فِي الْبَاطِلِ، وَلَنْ يَتْرُكَهُ سُدًى، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حُرًّا فِي تَصَرُّفَاتِهِ يَتَصَرَّفُ فِي نَفْسِهِ كَيْفَمَا يَشَاءُ، بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِيَ نَفْسَهُ وَأَنْ يَصُونَهَا مِنْ كُلِّ أَوْجُهِ الْهَلَاكِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهَا كُلَّ مَظَاهِرِ الْإِضْرَارِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْإِنْسَانِ الْخَبَائِثَ الَّتِي تُؤْذِيهِ، وَأَبَاحَ لَهُ كُلَّ مَا يَنْفَعُهُ وَيَحْمِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].
وَأَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هَذَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَأْكُلَ وَأَنْ يَشْرَبَ وَأَنْ يَنْتَفِعَ وَأَنْ يَزْدَانَ بِمَا خَلَقَ اللهُ لَهُ مِنْ مَظَاهِرِ الْمُتَعِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ؛ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وكُلُواْ وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف: 31].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
فَأَبَاحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَأَمَرَ بِحِفْظِ النَّفْسِ أَنْ يُعْتَدَى عَلَيْهَا أَوْ أَنْ يُعْتَدَى عَلَى الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ فِي عُضْوٍ مِنْهُ.
وَلِأَنَّ لِلْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَالْإِدْرَاكِ مَكَانَةً عَالِيَةً فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ فَقَدْ أَحَاطَ الشَّرْعُ الْحَنِيفُ الْعَقْلَ بِسِيَاجَاتِ حِفْظٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَحَرَّمَ كُلَّ مَا يَضُرُّ بِالْعَقْلِ أَوْ يُغَيِّبُهُ عَنِ الْوَعْيِ وَالْإِدْرَاكِ؛ فَقَدْ نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْخَمْرِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ الْمُفَتِّرَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُخَدِّرَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِفْظِ الْعَقْلِ، وَهُوَ مِنَ الْضَّرُورَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ بِسِوَاهَا.
أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِفْظِ النَّفْسِ، وَبِحِفْظِ الْعَقْلِ، وَبِحِفْظِ الْمَالِ، وَبِحِفْظِ الْعِرْضِ، وَأَمَرَ بِحِفْظِ الْدِّينِ، وَبِهِ يُحْفَظُ هَذَا كُلُّهُ.
وَلَا صَلَاحَ لِلْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ إِلَّا بِالْحِفَاظِ عَلَى هَذِهِ الْضَّرُورَاتِ، وَمَا وَرَاءَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْتَّحْسِينِيَّاتِ.
المصدر: خُطُورَةُ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ