بَابُ الانْكِسَارِ هُوَ أَوْسَعُ بَابٍ لِلْقُدُومِ عَلَى اللهِ
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَخْشَعَ لِرَبِّهِ، وَأَنْ يَسْتَكِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْ يَدْخُلَ مِنْ بَابِ الانْكِسَارِ وَالانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ إِذْ هُوَ عَبْدٌ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ إِلَهُهُ وَمَالِكُهُ، وَهُوَ مُصَرِّفُ أَمْرِهِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ فِيهِ، وَهُوَ –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَا مُتَوَاخِيَيْنِ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ عَابِدًا، مُقْبِلًا عَلَى رَبِّهِ مُجْتَهِدًا فِي عِبَادَتِهِ، بَاذِلًا نَفْسَهُ فِي الْعِبَادَةِ لِرَبِّهِ.
وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَ الْعَابِدُ كُلَّمَا مَرَّ بِالمُسْرِفِ عَلَى نَفْسِهِ؛ وَعَظَهُ وَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ لَا يَرْعَوِي.
فَقَالَ لَهُ الْعَابِدُ يَوْمًا لَمَّا لَمْ يَكُفَّ عَمَّا هُوَ عَلَيهِ مِنَ الْإِثْمِ: ((وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ)).
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: مَنْ هَذَا المُتَأَلِّي عَلَيَّ أَلَّا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟! اِشْهَدُوا يَا مَلَائِكَتِي أَنَّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَهُ)).
قَالَ أَبُو هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ))؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ رُبَّمَا ((تَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَكْتُبُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يُضْحِكُ بِهَا جُلَسَاءَهُ؛ يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)).
فَمَا مِنْ بَابٍ هُوَ أَوْسَعُ فِي الْقُدُومِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ بَابِ الانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَكَسْرَةُ الْقَلْبِ لِلرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَغْفِرُ اللهُ رَبُّ الْعَالمينَ بِهَا الذَّنْبَ، وَيَرْفَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا الدَّرَجَاتِ.
وَرُبَّ ذَنْبٍ أَدْخَلَ صَاحِبَهُ الْجَنَّةَ، وَرُبَّ طَاعَةٍ أَدْخَلَتْ صَاحِبَهَا النَّارَ!!
كَيْفَ ذَلِكَ؟
رَجُلٌ أَذْنَبَ ذَنْبًا، وَأَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ فِيهِ، فَوَقَعَ فِيهِ بِجَهَالَةٍ غَيْرَ مُجْتَرِئٍ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَلَمَّا أَنْ أَذْنَبَ الذَّنْبَ؛ أَوْرَثَهُ الذَّنْبُ اِنْكِسَارًا لِرَبِّهِ، وَإِخْبَاتًا وَخُشُوعًا وَإِنَابَةً، وَتَوْبَةً وَأَوْبَةً إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالمينَ، وَكَانَ كَشَأْنِ المُؤْمِنِ كَيْفَ يَكُونُ فِيمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ المَأْمُونُ ﷺ: ((إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذَنْبَهُ كَأَنَّهُ جَبَلٌ يُوشِكُ -أَوْ يَهُمُّ- أَنْ يَقَعَ عَلَيهِ)).
وَرُبَّ طَاعَةٍ أَدْخَلَتْ صَاحِبَهَا النَّارَ!!
كَيْفَ ذَلِكَ؟
يُوَفَّقُ لِلطَّاعَةِ، وَلَا يَنْظُرُ لِمَنْ وَفَقَّهُ، فَيَسْتَصْغِرُ عَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَضِيَ عَمَلَهُ وَنَفْسَهُ لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَهَذَا عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ اللهَ لَمْ يَرْضَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِعَمَلِهِ وَمَا يُحِيطُ بِهِ مِنَ الْآفَاتِ وَالْعُيُوبِ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِنَفْسِهِ، وَكَانَ عَالِمًا بِمَا يُحِيطُ بِهَا مِنَ النَّقَائِصِ وَالرَّذَائِلِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَرْضَى عَمَلَهُ وَلَا نَفْسَهُ لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: 27].
فَأَتَى بِالطَّاعَةِ، ثُمَّ أَخَذَ يُعْجَبُ بِهَا، وَيُدِلُّ بِهَا عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالمينَ؛ فَأَوْرَثَتْهُ تِيهًا وَعُجْبًا، وَمَا زَالَ ذَلِكَ كَذَلِكَ يَنْمُو فِي قَلْبِهِ، وَيَتَرَعْرَعُ فِي فُؤَادِهِ؛ حَتَّى كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ.
فَرُبَّ ذَنْبٍ أَدْخَلَ صَاحِبَهُ الْجَنَّةَ، وَرُبَّ طَاعَةٍ أَدْخَلَتْ صَاحِبَهَا النَّارَ.
المصدر: وماذا بعد رمضان؟