((الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ دَعْوَةُ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ))
فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- نَادَى النَّاسَ كُلَّهُمْ: مُسْلِمَهُمْ وَكَافِرَهُمْ، بَرَّهُمْ وَفَاجِرَهُمْ، عَرَبِيَّهُمْ وَعَجَمِيَّهُمْ بِأَوَّلِ نِدَاءٍ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَأَمَرَهُمْ جَمِيعًا أَمْرًا وَاحِدًا؛ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- وَحْدَهُ، وَأَنْ يُخْلِصُوا الْعِبَادَةَ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.
وَهُوَ أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَذَكَّرَهُم اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِخَلْقِهِ لَهُمْ، وَخَلْقِهِ لِآبَائِهِمُ الْأَقْدَمِينَ.
وَبِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ الْمَفْرُوشَةِ، وَالسَّمَاءِ الْمَرْفُوعَةِ، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا.
وَنَهَاهُمْ جَمِيعًا نَهْيًا وَاحِدًا: أَلَّا يَجْعَلُوا لَهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْدَادًا؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ، وَلَا كُفُوَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا شَبِيهَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَهُوَ وَحْدَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِله أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا نِدَّ لَهُ، وَلَا كُفُوَ لَهُ.
وَإِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -وَهُوَ الَّذِي عَادَى أَبَاهُ وَقَوْمَهُ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَدَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ- إِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الشِّرْكَ، وَيَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُجَنِّبَهُ وَذُرِيَّتَهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: ((فَمَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ؟!))
إِذَا كَانَ الْخَلِيل -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَهُ، وَذُرِّيَّتَهُ فِي جَانِبٍ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ.
وَهُوَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ، الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلِيلًا، وَالَّذِي أَبْلَى فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْبَلَاءَ الْحَسَنَ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَقَالَ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَنَجَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهَا بَعْدَمَا كَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَعَادَى قَوْمَهُ وَأَبَاهُ، إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ؟!
إِنَّ تَوْحِيدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْلَطَ بِرِيَاءٍ وَلَا بِسُمْعَةٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُخْلَطَ بِشِرْكٍ أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِأَجْلِهِ، وَأَنْزَلَ الْكُتَبَ لِأَجْلِهِ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ لِأَجْلِهِ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، وَالْمُرْسَلُونَ كُلُّهُمْ قَالُوا لِأَقْوَامِهِمْ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الْأَعْرَاف: 65].
فَكُلُّ رَسُولٍ أُرْسِلَ، وَكُلُّ نَبِيٍّ نُبِّئَ قَالَ لِقَوْمِهِ أَوَّلَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
فَهُوَ دِينُ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَإِنَّهُ كَانَ يَدُورُ عَلَيْهِمْ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَمُنْتَدَيَاتِهِمْ، وَفِي الْأَسْوَاقِ يَقُولُ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا)).
فَالْفَلَاحُ كُلُّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلُ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
التَّوْحِيدُ تَتَحَرَّرُ بِهِ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِمَنْ دُونَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَإِنَّهُ مُمَزَّقُ النَّفْسِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَهُوَ مُوَزَّعُ الْقُوَى، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى الْجَادَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ صِرَاطَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُسْتَقِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ وَالْاتِّبَاعِ.
وَإِنَّ نَبِيَّنَا ﷺ قَدْ دَعَا النَّاسَ أَجْمَعِينَ إِلَى إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ حَمَى حِمَى التَّوْحِيدِ، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَلَا مِنَ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ أَنْ يُغَالُوا فِيهِ ﷺ، فَنَهَى عَنِ الْغُلُوِّ فِيهِ، وَقَالَ ﷺ: ((قُولُوا: عَبْدُ اللهِ، وَرَسُولُهُ)).
فَالْعُبُودِيَّةُ الَّتِي حَقَّقَهَا أَعْظَمُ مَا حَقَّقَهَا مَخْلُوقٌ، وَهِيَ أَعْظَمُ الْمَقَامَاتِ الَّتِي يُتَعَبَّدُ بِهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَكَانَ ﷺ يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَقُولُ: ((إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ)). وَهُوَ رَسُولُ اللهِ، وَهُوَ خَلِيلُ اللهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْخَلْقِ مَقَامًا عِنْدَ اللهِ ﷺ.
المصدر: خطبة تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، وَالْفَرَحُ الشَّرْعِيُّ فِي الْعِيدَيْنِ