مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي الْجِهَادِ


((مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي الْجِهَادِ))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ النِّظَامِ فِي الْعِبَادَاتِ: النِّظَامَ فِي الْجِهَادِ؛ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17].

وَجُمِعَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ نَوْعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَأَصْنَافِ الطُّيُورِ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَهُمْ لِكَثْرَتِهِمُ الْعَظِيمَةِ يُجْمَعُونَ فِي مَكَانٍ جَامِعٍ، وَيُرَتَّبُونَ صُفُوفًا وَيُسَوَّوْنَ لِلْقِيَامِ مُنْتَظِمِينَ بِمَا يُكَلَّفُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، {فَهُمْ يُوزَعُونَ}؛ يُرَدُّ أَوَاخِرُهُمْ عَلَى أَوَائِلِهِمْ.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4].

إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يَصُفُّونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ صَفًّا فِي خُطَّةٍ مَرْسُومَةٍ مُوَحَّدَةٍ جَامِعَةٍ لِلْقُوَى، وَيَثْبُتُونَ فِي الْجِهَادِ، وَيُنَفِّذُونَ أَوَامِرَ قِيَادَتِهِمُ الْحَرْبِيَّةِ الْوَاحِدَةِ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مُحْكَمٌ مُتَنَاسِقٌ قَدْ رُصَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، فَلَيْسَ فِيهِ فُرْجَةٌ وَلَا خَلَلٌ.

وَقَدْ تَقْضِي الْخُطَّةُ الْحَكِيمَةُ الَّتِي تَضَعُهَا الْقِيَادَةُ أَنْ يُقَاتِلَ بَعْضُ الْمُقَاتِلِينَ، وَيَتَرَبَّصَ بَعْضُهُمْ، وَيَكُونَ قِسْمٌ مِنْهُمْ فِي الْكَمَائِنِ، وَأَنْ يُدَاهِمُوا الْعَدُوَّ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَاتِ الشَّكْلِ مُتَنَوِّعَاتِ السِّلَاحِ.

وَلَيْسَ مَعْنَى وَحْدَةِ صَفِّ الْمُقَاتِلِينَ أَنْ يُوَاجِهُوا عَدُوَّهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الصَّفِّ الْمُتَرَاصِّ كَتِفًا بِكَتِفٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُمَكِّنُ الْعَدُوَّ مِنْ حَصْدِهِمْ بِالْأَسْلِحَةِ النَّارِيَّةِ الْحَدِيثَةِ بِسُرْعَةٍ خَاطِفَةٍ.

وَفِي الْآيَةِ: الْحَثُّ عَلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَأَنْ يُوَاجِهَ جُنُودُ الْإِسْلَامِ أَعْدَاءَهُ صَفًّا سَوِيًّا رَاسِخًا كَالْبُنْيَانِ الَّذِي تَتَعَاوَنُ لَبِنَاتُهُ وَتَتَضَامُّ وَتَتَمَاسَكُ، وَتُؤَدِّي كُلُّ لَبِنَةٍ دَوْرَهَا، وَتَسُدُّ ثَغْرَتَهَا؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ كُلَّهُ يَنْهَارُ إِذَا تَخَلَّتْ مِنْهُ لَبِنَةٌ عَنْ مَكَانِهَا؛ تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ، أَوْ تَخَلَّتْ عَنْ أَنْ تُمْسِكَ بِأُخْتِهَا تَحْتَهَا أَوْ فَوْقَهَا أَوْ عَلَى جَانِبَيْهَا سَوَاءً.

وَتَبَدَّتْ مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي جِهَادِ النَّبِيِّ ﷺ؛ ((فقَدْ كَانَ ﷺ يَسْتَحِبُّ الْقِتَالَ أَوَّلَ النَّهَارِ، كَمَا كَانَ يَسْتَحِبُّ الْخُرُوجَ لِلسَّفَرِ أَوَّلَهُ، فَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُبَايِعُ أَصْحَابَهُ فِي الْحَرْبِ عَلَى أَلَّا يَفِرُّوا، وَكَانَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ، وَأَمْرِ الْعَدُوِّ، وَتَخَيُّرِ الْمَنَازِلِ، وَكَانَ أَرْفَقَ النَّاسِ بِهِمْ فِي الْمَسِيرِ.

وَكَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً فَرُبَّمَا وَرَّى بِغَيْرِهَا، فَيَقُولُ -مَثَلًا- إِذَا أَرَادَ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ: كَيْفَ طَرِيقُ نَجْدٍ وَمِيَاهُهَا؟ وَمَنْ بِهَا مِنَ الْعَدُوِّ؟ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّهُ يُرِيدُ نَجْدًا وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا، وَإِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَى حُنَيْنٍ، وَكَانَ يَقُولُ: ((الْحَرْبُ خُدْعَةٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَانَ يَبْعَثُ الْعُيُونَ يَأْتُونَهُ بِخَبَرِ عَدُوِّهِ، وَيُطْلِعُ الطَّلَائِعَ، وَيُبَيِّتُ الْحَرَسَ.

وَكَانَ إِذَا لَقِيَ عَدُوَّهُ وَقَفَ وَدَعَا، وَاسْتَنْصَرَ بِاللهِ، وَأَكْثَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ، وَخَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ.

وَكَانَ يُرَتِّبُ الْجَيْشَ وَالْمُقَاتِلَةَ، وَكَانَ يُبَارَزُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرِهِ، وَكَانَ يَلْبَسُ لِلْحَرْبِ عُدَّتَهُ، وَرُبَّمَا ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَكَانَ لَهُ الْأَلْوِيَةُ وَالرَّايَاتُ.

وَكَانَ ﷺ يَأْمُرُ أَمِيرَ سَرِيَّتِهِ أَنْ يَدْعُوَ عَدُوَّهُ قَبْلَ الْقِتَالِ؛ إِمَّا إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ، أَوْ إِلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الْهِجْرَةِ وَيَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ نَصِيبٌ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوا إِلَيْهِ قَبِلَ مِنْهُمْ، وَإِلَّا اسْتَعَانَ بِاللهِ وَقَاتَلَهُمْ)) .

وَشَرَعَ اللهُ فِي الْجِهَادِ صَلَاةَ الْخَوْفِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} [النساء: 102].

وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ -أَيْ: فِي أَصْحَابِكَ-، وَشَهِدْتَ مَعَهُمُ الْقِتَالَ، وَحَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَأَقَمْتَهَا؛ فَاجْعَلْ أَصْحَابَكَ فِرْقَتَيْنِ، فَلْتَقِفْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، فَتُصَلِّي بِهِمْ، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمُ الْخَفِيفَةَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى أُهْبَةِ الْقِتَالِ دَائِمًا.

فَإِذَا سَجَدَ هَؤُلَاءِ فَلْتَكُنِ الْجَمَاعَةُ الْأُخْرَى مِنْ خَلْفِكُمْ فِي مُوَاجَهَةِ عَدُوِّكُمْ، وَتُتِمُّ الْجَمَاعَةُ الْأُولَى رَكْعَتَهُمُ الثَّانِيَةَ وَيُسَلِّمُونَ، وَلْيَنْصَرِفُوا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ لِلْحِرَاسَةِ.

وَلْتَأْتِ الْجَمَاعَةُ الْأُخْرَى الْحَارِسَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْكَ، وَيُتِمُّوا بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ، وَلْيَتَيَقَّظُوا وَيَتَحَرَّزُوا مِنَ الْكُفَّارِ مَعَ أَخْذِ الْأَسْلِحَةِ.

 

المصدر:احْتِرَامُ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي ضَوْءِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى الثَّقَليْنِ نِعْمَةُ الرَسُولِ ﷺ
  فَضَائِلُ رِعَايَةِ الْبَنَاتِ
  مِنْ دُرُوسِ قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ثَنَاءُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ
  تَهْيِئَةُ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ لِاسْتِقْبَالِ رَمَضَانَ
  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: عِظَمُ قَدْرِ الصَّلَاةِ فِي الْإِسْلَامِ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهَا
  دِينُ اللهِ هُوَ دِينُ الْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ
  نَمَاذِجُ دَالَّةٌ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ
  ذِكْرُ اللهِ حَيَاة
  تَحْذِيرُ الْإِسْلَامِ مِنْ وَسَائِلِ الشَّائِعَاتِ كَالْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ
  دَلَائِلُ أَهَمِّيَّةِ الْمَاءِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الزَّوَاجِ الذُّرِّيَّةُ
  حُسْنُ مُعَامَلَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْوُفُودِ وَحَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ
  تَعْلِيمُ النَّبِيِّ ﷺ الْأُمَّةَ كُلَّ مَا يَنْفَعُهَا
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: خِدْمَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ
  الْمِعْرَاجُ وَبَذْلُ الْحُبِّ وَالْوُدِّ
  • شارك