مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي الْعِبَادَاتِ


((مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي الْعِبَادَاتِ))

عِبَادَ اللهِ! كَمَا أَنَّ النِّظَامَ سُنَّةٌ كَوْنِيَّةٌ؛ فَهُوَ -أَيْضًا- مَبْدَأٌ أَصِيلٌ مِنْ مَبَادِئِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِنِظَامٍ دَقِيقٍ مُتَنَاسِقٍ مَعَ نِظَامِ هَذَا الْكَوْنِ الْمُنْضَبِطِ؛ لِيَدُلَّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّ خَالِقَ هَذَا الْكَوْنِ هُوَ مَنْ أَنْزَلَ هَذَا الشَّرْعَ الْحَنِيفَ.

الرَّسُولُ ﷺ كَانَ حَرِيصًا غَايَةَ الْحِرْصِ عَلَى جَمْعِ الشَّمْلِ، وَنَبْذِ الْفُرْقَةِ، وَتَرْسِيخِ الِائْتِلَافِ، وَنَبْذِ الْخِلَافِ، حَتَّى فِي الشَّكْلِ الظَّاهِرِ.

كَانَ يَحْرِصُ ﷺ غَايَةَ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ عَلَى صُورَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ، فَإِذَا قَامَ النَّاسُ عَلَى صُفُوفِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ، وَقَامَ أَمَامَهُمْ ﷺ إِمَامًا لَهُمْ؛ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ فَيَقُولُ ﷺ -مُحَذِّرًا وَمُبَشِّرًا، وَآمِرًا وَمُنْذِرًا-: ((اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)) .

وَجَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ الِاخْتِلَافَ الظَّاهِرَ.. حَتَّى فِي الْوُقُوفِ فِي الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلٌ شَيْئًا، أَوْ يَتَأَخَّرَ رَجُلٌ شَيْئًا.. جَعَلَ هَذَا الِاخْتِلَافَ مَدْعَاةً لِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ، وَتَأْثِيرًا لِلظَّوَاهِرِ عَلَى الْبَوَاطِنِ بِانْعِكَاسَاتٍ غَيْرِ مَرْغُوبَةٍ، ((وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)).

وَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِعِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ مَهْمَا نَظَرْتَ فِيهَا وَتَأَمَّلْتَ فِي مَطَاوِيهَا وَجَدْتَ أَنَّهَا تَدْعُو ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَالِانْسِجَامِ الظَّاهِرِ بَيْنَ أَبْنَائِهَا.

حَتَّى إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى فِي الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ، فَيَجْعَلُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ النَّوَافِلَ فِي الْبُيُوتِ صَلَاةً وَقِيَامًا ؛ لِأَنَّهَا مَدْعَاةٌ لِاجْتِهَادَاتٍ عَلَى حَسَبِ الْقُدْرَةِ.

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ فِيهَا بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ أَخُوهُ، فَذَلِكَ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ، وَأَدْنَى إِلَى الْإِخْلَاصِ، ثُمَّ هُوَ أَبْعَدُ عَنْ الِاخْتِلَافِ الظَّاهِرِ مَهْمَا كَانَ الْأَمْرُ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ نَفَرَ الْجَمْعُ كُلُّهُمْ إِلَى بُيُوتِ رَبِّهِمْ؛ لِكَيْ يَقُومُوا وَرَاءَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، يَقُومُونُ بِقِيَامِهِ، وَيَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ، وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ.

وَنَفَّرَ وَحَذَّرَ، وَرَغَّبَ وَرَهَّبَ فِي الْمُتَابَعَةِ لِلْإِمَامِ وَعَدَمِ مُسَابَقَتِهِ ، حَتَّى إِنَّهُ رَهَّبَ مِنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ الَّذِي يَرْفَعُ قَبْلَ إِمَامِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ حَالِ رُكُوعِهِ، يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ رَأْسُهُ إِلَى رَأْسِ حِمَارٍ ؛ لِكَيْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَاحِدًا بِلَا مُسَابَقَةٍ، وَإِنَّمَا عَلَى اتِّبَاعٍ مُتَسَاوِقٍ بِغَيْرِ مَا سَبْقٍ وَلَا إِبْطَاءٍ.

ثُمَّ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الْجَمْعَ يَكُونُ فِي مَسَاجِدِ الْأَحْيَاءِ مَدْفُوعًا إِلَى مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ الْجَامِعِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُصَلِّيَ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ -مَهْمَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ- فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ هُوَ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ، وَرَاءَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، يَسْمَعُونَ كَلَامًا وَاحِدًا، وَيَلْقَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

فَإِذَا مَا مَرَّ مَرُّ الْعَامِ وَأَتَى الْعِيدَانِ، أَخْرَجَ اللهُ الْجَمْعَ إِلَى الْخَلَاءِ؛ لِكَيْ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلِكَيْ يَبْدُوَ عِزُّ الْإِسْلَامِ بِتَكْبِيرٍ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ثُمَّ إِذَا مَا مَرَّ مَرُّ الْأَيَّامِ نَفَرَ الْجَمْعُ -مِمَّنْ قَدَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ ذَلِكَ- فَذَهَبُوا إِلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فِي عَرَفَاتٍ، عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ، بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِقْبَالٍ وَاحِدٍ، وَعَطَاءٍ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ نِيَّاتِ الْقُلُوبِ.

مَهْمَا نَظَرْتَ فِي هَذَا الدِّينِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَجَدْتَ دَعْوَةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْوَحْدَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى .

 

المصدر:احْتِرَامُ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي ضَوْءِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  فَضَائِلُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَشَرَفُ حَمَلَتِهِ
  مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَةِ: إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ، وَإِعَانَةُ الضُّعَفَاءِ وَذَوِي الِاحْتِيَاجَاتِ الْخَاصَّةِ
  أَفْضَلُ الصُّوَّامِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا للهِ
  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ: هَجْرُ الشِّرْكِيَّاتِ إِلَى التَّوْحِيدِ
  جُمْلَةُ حِكَمٍ عَظِيمَةٍ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ
  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: حُسْنُ الْخُلُقِ
  شَهَادَاتُ الْمُنْصِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِالرَّحْمَةِ
  سَعَةُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَكَمَالُهَا
  مَحَبَّةُ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلُهُ وَهُوَ صَائِمٌ
  الْأُخُوَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ وَرَحِمُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ
  المَوْعِظَةُ الْعِشْرُونَ : ((فَضْلُ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))
  آثَارُ التَّفْرِيطِ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  الْجَمَاعَاتُ الْخَارِجِيَّةُ الْإِرْهَابِيَّةُ وَإِضْعَافُ الْأُمَّةِ
  الظُّلْمُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ
  مَعْنَى الْجِهَادِ وَنَوْعَاهُ وَشُرُوطُهُ
  • شارك