آثَارُ السَّلَفِ فِي مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ


 

((آثَارُ السَّلَفِ فِي مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ))

لَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ))، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا؛ أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكَمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ})).

وَذَكَرَ -أَيْضًا- عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ((لَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَ إِلَّا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِشَرْبَتِي؟

وَالْفَاجِرُ يَمْضِي قُدُمَا، لَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ)).

وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}: ((أَضَاعَ نَفْسَهُ وَغُبِنَ، مَعَ ذَلِكَ تَرَاهُ حَافِظًا لِمَالِهِ، مُضَيِّعًا لِدِينِهِ)) .

قَالَ الْحَسَنُ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ بِخَيْرٍ، مَا كَانَ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ مِنْ هِمَّتِهِ)).

وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: ((لَا يَكُونُ الْعَبْدُ تَقِيًّا، حَتَّى يَكُونَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مُحَاسَبَةً مِنَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ))؛ وَلِهَذَا قِيلَ: ((النَّفْسُ كَالشَّرِيكِ الْخَوَّانِ، إِنْ لَمْ تُحَاسِبْهُ ذَهَبَ بِمَالِكَ)).

وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ -أَيْضًا-: ((التَّقِيُّ أَشَدُّ مُحَاسَبَةً لِنَفْسِهِ مِنْ سُلْطَانٍ عَاضٍّ، وَمِنْ شَرِيكٍ شَحِيحٍ)).

وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَهْبٍ, قَالَ: ((مَكْتُوبٌ ((فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ)): ((حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لا يَغْفَلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ:

سَاعَةٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يَخْلُو فِيهَا مَعَ إِخْوَانِهِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيَصْدُقُونَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَسَاعَةٍ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ؛ فَإِنَّ في هَذِهِ السَّاعَةِ عَوْنًا عَلَى تِلكَ السَّاعَاتِ، وَإِجْمَامًا لِلْقُلُوبِ).

وَكَانَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ يَجِيءُ إِلَى الْمِصْبَاحِ؛ فَيَضَعُ أُصْبَعَهُ فِيهِ ثُمَّ يَقُولُ: ((حَسّ يَا حُنَيْفُ! مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ يَوْمَ كَذَا؟ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ يَوْمَ كَذَا؟!!)).

وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: ((حَاسِبْ نَفْسَكَ فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ؛ فَإِنَّ مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ عَادَ أَمْرُهُ إِلَى الرِّضَا وَالْغِبْطَةِ، وَمَنْ أَلْهَتْهُ حَيَاتُهُ وَشَغَلَتْهُ أَهْوَاؤُهُ عَادَ أَمْرُهُ إِلَى النَّدَامَةِ وَالْخَسَارَةِ)) .

قَالَ الْحَسَنُ: ((الْمُؤْمِنُ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ، يُحَاسِبُ نَفْسَهُ للهِ، وَإِنَّمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا شَقَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ.

إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُفَاجِئُهُ الشَّيْءُ وَيُعْجِبُهُ فَيَقُولُ: وَاللهِ إِنِّي لَأَشْتَهِيكَ، وَاللهِ إِنَّكَ لَمِنْ حَاجَتِي، وَلَكِنْ وَاللهِ مَا مِنْ صِلَةٍ إِلَيْكَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَيَفْرُطُ مِنْهُ الشَّيْءُ فَيَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: مَا أَرَدْتَ إِلَى هَذَا؟ مَا لِي وَلِهَذَا؟ وَاللهِ لَا أَعُودُ إِلَى هَذَا أَبَدًا.

إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَوْمٌ أَوْقَفَهُمُ الْقُرْآنُ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَلَكَتِهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِي فَكَاكِ رَقَبَتِهِ، لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللهَ، يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ وَفِي بَصَرِهِ، وَفِي لِسَانِهِ وَفِي جَوَارِحِهِ، مَأْخُوذٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ)) .

وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: ((رَحِمَ اللهُ عَبْدًا قَالَ لِنَفْسِهِ: أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ ثُمَّ ذَمَّهَا، ثُمَّ خَطَمَهَا، ثُمَّ أَلْزَمَهَا كِتَابَ اللهِ وَكَانَ لَهَا قَائِدًا)) ))).

عَنْ أَبِي شَمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلًا، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ! أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ بِكَذَا؟!!

فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ: شَهَادَةُ ((أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ))، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ؛ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي.

قَالَ: ((مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟)).

قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.

قَالَ: ((تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟)).

قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي.

قَالَ: ((أَمَا علِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟)).

وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنِيَّ مِنْهُ؛ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنِيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ، فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا؛ حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسَلَ رَبِّي)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

وَعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ- قَالَ: لَقِينِي أَبُو بَكْرٍ قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟

قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ.

قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! مَا تَقُولُ؟!!

قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا.

قَالَ: فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ!!

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَمَا ذَاكَ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا النَّارَ وَالْجَنَّةَ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ! سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

المصدر:حَاجَتُنَا إِلَى الدِّينِ الرَّشِيدِ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْأُمُورُ الَّتِي يُسْتَمَدُّ مِنْهَا الْإِيمَانُ وَأَسْبَابُ زِيَادَتِهِ
  حِمَايَةُ الْوَطَنِ مِنَ الْإِرْهَابِ
  مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي عِبَادَةِ الصَّوْمِ
  ضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَى نَظَافَةِ الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ
  آثَارُ السَّلَفِ فِي مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ
  الْإِيمَانُ تَصْلُحُ بِهِ الْحَيَاةُ عَلَى مُسْتَوَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ
  أَهْدَافُ الْحَجِّ
  خَطَرُ الْخِيَانَةِ عَلَى الْأَوْطَانِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ وَوَاجِبَاتُهُ تِجَاهَ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
  عَامٌ شَهِيدٌ وَعَامٌ جَدِيدٌ
  احْتِرَامُ دِمَاءِ النَّاسِ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَةِ الإِسْلَامِ
  رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ بِالصِّغَارِ
  أَسْبَابُ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ
  الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ فِي الْقُرْآنِ
  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ: هَجْرُ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ
  • شارك