المَوْعِظَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : ((رَمَضَانُ شَهْرُ الْجَوَدِ وَالْكَرَمِ وَالْعَطَاءِ))


المَوْعِظَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ

رَمَضَانُ شَهْرُ الْجَوَدِ وَالْكَرَمِ وَالْعَطَاءِ

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ))

فَإِنَّ اللهَ رَبَّ العَالمينَ هُوَ الْجَوَادُ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا».

وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ اللهَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ». هُنَا عَلَى الْمَصْدَرِ، وَهُنَالِكَ عَلَى الْمُتَّصِفِ بِالصِّفَةِ.

فَاللهُ هُوَ الْكَرِيمُ، وَهُوَ الْجَوَادُ، وَيُحِبُّ الْكَرَمَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ الْجُودَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَرَمَ وَالْجُودَ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ.

وَيَكْرَهُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- السَّفَاسِفَ، وَالْأُمُورَ الْمُسْتَصْغَرَةَ، وَالْأَحْوَالَ الْمُسْتَرْذَلَةَ.

يَكْرَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- سَفْسَافَ الْأَخْلاقِ، ومُنحَطَّهَا، وَيُحِبُّ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مَعَالِيَ الْأُمُورِ.

الجُودُ وَالكَرَمُ في رَمَضَانَ

أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)): أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَئِذٍ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ».

وَهَذَا تَشْبِيهٌ عَلَى أَبْلَغِ صُورَةٍ؛ إِذْ شَبَّهَ جُودَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ فِي عُمُومِهَا، وَفِي تَوَاتُرِهَا، وَفِي خَيْرِهَا.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَصْفٌ لِخُلُقٍ مِنْ أَخْلَاقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهَذَا الْخُلُقُ في رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِهِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، لَكِنَّهُ يَكُونُ أَعْلَى مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ.

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الظَّرْفَ الزَّمَنِيَّ مَحَلًّا لِكَثْرَةِ الْجُودِ، وَلِلْبُلُوغِ بِهِ إِلَى الْـمَحَلِّ الَّذِي لَا يُرْتَقَى.

وَهُوَ ﷺ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ.

وَأَمَّا الْجُودُ: فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الْكَرَمِ؛ لِأَنَّ الْكَرَمَ يَكُونُ عَنِ اسْتِحْقَاقٍ وَسُؤَالٍ، وَأَمَّا الْجُودُ فَإِنَّهُ صِفَةٌ مُلَازِمَةٌ مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِحْقَاقٍ وَلَا سُؤَالٍ.

وَالْكَرَمُ يَكُونُ عِنْدَمَا يَكُونُ هُنَالِكَ مُسْتَحِقٌّ فَيُعْطَى، وَعِنْدَمَا يَكُونُ فَقِيرٌ فَيُكْرَمُ، سَوَاءٌ سَأَلَ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ، أَمْ لَمْ يَسْأَلْ.

فَالَكَرَمُ يَكُونُ عَنِ اسْتِحْقَاقٍ وَسُؤَالٍ، وَأَمَّا الْجُودُ فَهُوَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلنَّفْسِ، فَهِيَ تُعْطِي مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِحْقَاقٍ وَلَا سُؤَالٍ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا وَصَفَ ابْنُ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- حَالَهُ «أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْـمُرْسَلَةِ».

وَكَانَ هُوَ ﷺ فِي حَالَتِهِ هَذِهِ أَكْرَمَ النَّاسِ, وَأَجْوَدَ النَّاسِ فِي كُلِّ الْعَامِ، وَلَكِنَّ رَمَضَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ.

فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالَاتِهِ جَمِيعِهَا في كُلِّ الْعَامِ أَجْوَدَ الْخَلْقِ، لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.

الصَّدَقَةُ مِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ

إِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ، وَهِيَ تَظَلُّ تَعْلُو فِي مَدَارِجِ الْكَمَالِ، وَتَزْدَادُ كُلَّمَا أَمْعَنَّا فِيهِ، وَاقْتَرَبْنَا مِنْ نِهَايَتِهِ، فَتَكُونُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ.

وَلِيَكُونَ رَمَضَانُ مَدْرَسَةً لِتَدْرِيبِ النَّفْسِ عَلَى هَذَا الخُلُقِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ، فَتَظَلُّ النَّفْسُ تُعْطِي كُلَّ الْعَامِ، وَتَجُودُ بِكُلِّ مَا هُوَ مَوْجُودٌ للهِ وَحْدَهُ.

فَهَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ».

وَمِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فِي رَمَضَانَ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ شُهُورِ الْعَامِ:

تَفْطِيرُ الصَّائِمِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَسَقْيُ المَاءِ: فَقَدْ رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي تَفْطِيرِ الصَّائِمِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَسَقْيِ المَاءِ؛ فَقَالَ ﷺ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا», رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».

لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الصَّدَقَةِ شَيْئًا:

فَلَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ مِنَ الصَّدَقَةِ شَيْئًا؛ فَإِنَّ الثَّوَابَ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنَ الْإِخْلَاصِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِئَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ».

قَالُوا: كَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ سِوَى دِرْهَمَيْنِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا، وَرَجَلٌ عِنْدَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَتَصَدَّقَ مِنْ عُرْضِ مَالِهِ بِمَائَةِ أَلْفٍ».

الدِّرْهَمُ أَفْضَلُ: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِئَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ».

وَالثَّوَابُ يَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ؛ فَمَنْ أَخْرَجَ صَدَقَةً مُخْلِصًا بِهَا للهِ؛ تَقَبَّلَ اللهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَصِلْ إِلَى أَهْلِهَا، وَاللهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُخْلِصِينَ الْمُحْسِنِينَ.

وَالصَّدَقَةُ -عِبَادَ اللهِ- وَالِاسْتِغْفَارُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ، وَنُزُولِ الْبَرَكَاتِ، وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الْمُلِمَّاتِ.

فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَامَ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَنْظُرُ الْـمَرْءُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ، وَيَنْظُرَ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ، وَيَنْظُرُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ.       

فَاللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَنَا، وَارْزُقْنَا الْجُودَ وَالْكَرَمَ؛ وَأَنْتَ أَنْتَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

 

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْمَعْنَى الْحَقُّ لِاسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ
  مِنْ أَهَمِّ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ: الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ وَالصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِبَادَاتِ الْعَظِيمَةِ
  احْذَرُوا مِنْ ذُنُوبِ الْخَلَوَاتِ!!
  خُلُقُ النَّبِيِّ ﷺ وَهَدْيُهُ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ
  صَلَاحُ الْمُجْتَمَعِ يَبْدَأُ بِصَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْأُسْرَةِ
  المَوْعِظَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : ((جُمْلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ(1) ))
  الْكَلَامُ طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ وَبَيَانُ شَأْنِهِ
  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ لَا حَدَّ لَهَا
  رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ
  نِعْمَةُ الْمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْنَا
  حَضَارَةُ الْعُنْصُرِيَّةِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ!!
  مَثَلٌ مَضْرُوبٌ فِي الْوَفَاءِ!!
  عَاقِبَةُ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ
  سُبُلُ التَّغْيِيرِ لِصَلَاحِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْأُمَّةِ
  • شارك