ضَرُورَةُ مُرَاقَبَةِ السِّرِّ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ


((ضَرُورَةُ مُرَاقَبَةِ السِّرِّ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ))

فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ الَّذِي رَوَاهُ بِسَنَدِهِ عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُرَاقِبَ السِّرَّ، وَأَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى مُرَاقَبَةِ الْبَاطِن، وَأَنْ يَكُونَ حَذِرًا.

فَعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَقَالَ: ((كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟)).

فَقُلْتُ: ((نَافَقَ حَنْظَلَةُ))؛ أَيْ: قَارَبَ أَوْ شَارَفَ النِّفَاقَ، وَلَمْ يُنَافِقْ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ.

فَقَالَ: ((سُبْحَانَ اللَّهِ!! مَا تَقُولُ؟!!)).

فقَالَ قُلْتُ: ((إِنَّا نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ  يُحَدِّثُنَا عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ؛ فَإِذَا انْصَرَفْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَافَسْنَا الْأَوْلَادَ، وَالْأَزْوَاجَ، وَالضَّيْعَاتِ؛ نَسِينَا كَثِيرًا)).

فقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَاللَّهِ إِنَّا لَنَجِدُ مَا تَقُولُ))، وَلَكِنَّهُ لَمْ يذكر نِفَاقًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؛ فَقَالَ حَنْظَلَةُ: ((نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ )).

فَقَالَ ﷺ: ((وَمَا ذَاكَ؟)).

فَقَالَ: ((نَكُونُ عِنْدَكَ تُحَدِّثُنَا عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا انْصَرَفْنَا مِنْ عِنْدِكَ، وَعَافَسْنَا الزَّوْجَاتِ، وَالْأَوْلَادَ، وَالضَّيْعَاتِ؛ نَسِينَا كَثِيرًا)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي، بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الَّذِي تَكُونُونَ عَلَيْهِ عِنْدِي؛ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي الطُّرُقَاتِ وَعَلَى فُرُشِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً)).

فَحَنْظَلَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُرَاقِبُ سِرَّهُ، وَيَنْظُرُ فِي أَطْوَاءِ ضَمِيرِهِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ وَوَجَدَ تَفَاوُتًا بَيْنَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي مَنَاحِي حَيَاتِهِ بَعْدُ؛ فَزِعَ مِنْ ذَلِكَ وَحَسِبَهُ نِفَاقًا.

ثَمَّ لَمْ يَرْضَ بِأَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْطَوِي عَلَيْهِ الضَّمِيرُ مِنْ غَيْرِ إِفْصَاحٍ وَلَا بَيَانٍ، وَإِنَّمَا سَعَى فِي كَشْفِ حَقِيقَةِ الْحَالِ.

فَلَمَّا لَقِيَهُ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَخْبَرَهُ بِالَّذِي يَجِدُ مِنْ هَذَا التَّفَاوُتِ فِي الْحَالِ، مِمَّا حَسِبَهُ نِفَاقًا، أَوْ مُشْرِفًا بِهِ عَلَى النِّفَاقِ، ثُمَّ سَارَعَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.

وَهُنَالِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا مِنْ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهِيَ: أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَاتِ، وَأَنَّ أَهْلَهُ يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ.

فَلَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ؛ صَحَّحَ لَهُ الْحَالَ، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَصْلِ النَّظَرِ فِي هَذَا الْحَالِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: لَا تُفَكِّرْ هَكَذَا مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنَّمَا صَحَّحَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ اسْتِنْتَاجَهُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى تَفْتِيشِهِ فِي ضَمِيرِهِ، وَبَحْثِهِ فِي سَرِيرَتِهِ، وَتَنْقِيبِهِ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُصَحِّحًا: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الَّذِي تَكُونُونَ عَلَيْهِ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي الطُّرُقَاتِ، وَعَلَى فُرُشِكُمْ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ مُصَحِّحًا أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَا يَضُرُّ شَيْئًا، مَعَ بَقَاءِ الْمَرْءِ عَلَى حَقِيقَةِ إِيمَانِهِ؛ وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ هَذَا الْحَالُ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إِلَى نَقِيضِهِ وَضِدِّهِ.

فَلَمْ يُقِرَّهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى اسْتِنْتَاجِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّهُ عَلَى أَصْلِ التَّفْتِيشِ فِي الْحَالِ، وَالنَّظَرِ فِي أَطْوَاءِ الْقَلْبِ، وَمُرَاعَاةِ أَحْوَالِ الْفُؤَادِ.

فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّ إِيمَانَهُ يَزِيدُ بِمَا يَسْمَعُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وَبِمَا يَتَعَلَّمُ، وَأَنَّهُ إِذَا مَا انْصَرَفَ إِلَى الْحَيَاةِ فَعَالَجَهَا، وَكَانَ فِي أَحْوَالِهَا وَوَسَائِلِهَا؛ فَإِنَّ إِيمَانَهُ يَتَفَاوَتُ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ.

إِذَنْ؛ رِقَابَةُ السِّرِّ، وَمُرَاعَاةُ الضَّمِيرِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي، قَدْ يُسْلَبُ الْمَرْءُ إِيمَانَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَظُنُّ أَنَّهُ يُسْلَبُهُ.

 

المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّة وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْحَثُّ عَلَى خُلُقِ الشَّهَامَةِ وَتَفْرِيجِ كُرُبَاتِ الْمُسْلِمِينَ
  صِلْ مَنْ قَطَعَكَ
  الْمُسْلِمُونَ جَسَدٌ وَاحِدٌ
  عِلَاجُ طُولِ الْأَمَلِ
  نَمَاذِجُ مِنْ عَفْوِ وَصَفْحِ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ
  تَعْرِيفُ الْمُسْكِرِ لُغَةً وَشَرْعً
  مَعْنَى مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ وَحَقِيقَتُهَا
  أَهْدَافُ الْجِهَادِ السَّامِيَةِ
  آدَابُ الطُّرُقِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ
  الْمَوْعِظَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ))
  الرَّدُّ عَلَى شُبْهَةِ: أَنَّ الْإِسْلَامِ دِينُ اسْتِرْقَاقٍ لِلْأَحْرَارِ
  مَظَاهِرُ خُطُورَةِ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  دِينُ الْإِسْلَامِ دِينُ الرَّحْمَةِ وَالسَّلَامِ
  صَلَاحُ الْمُجْتَمَعِ يَبْدَأُ بِصَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْأُسْرَةِ
  اسْتِقْبَالُ الْعَشْرِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَالِاتِّبَاعِ
  • شارك