مَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ وَالْإِحْسَانِ


«مَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ وَالْإِحْسَانِ»

عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ..

وَسَأَلَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- النَّبِيَّ ﷺ عَن: الإِسْلَامِ، وَالإِيمَانِ، وَالإِحْسَانِ.

قَالَ جِبْرِيلُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

الإِحْسَانُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي تَفْسِيرِهِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

يُشِيرُ إِلَى أَنَّ العَبْدَ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهُوَ اسْتِحْضَارُ قُرْبِهِ، وَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الخَشْيَةَ وَالخَوْفَ، وَالهَيْبَةَ وَالتَّعْظِيمَ.

كَمَا جَاءَ في روايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ-: «أَنْ تَخْشَى اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ».

وَيُوجِبُ -أَيْضًا- النُّصْحَ فِي العِبَادَةِ، وَيُوجِبُ بَذْلَ الجُهْدِ فِي تَحْسِينِهَا، وَإِتْمَامِهَا، وَإِكْمَالِهَا.

وَقَوْلُهُ ﷺ: «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»: قِيلَ إِنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا أُمِرَ بِمُرَاقَبَةِ اللهِ فِي العِبَادَةِ، وَاسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِن عَبْدِهِ حَتَّى كَأَنَّ العَبْدَ يَرَاهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَيَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِإِيمَانِهِ بِأَنَّ اللهَ يَرَاهُ، وَيَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ.

فَإِذَا حَقَّقَ هَذَا المَقَامَ؛ سَهُلَ عَلَيْهِ الانْتِقَالُ إِلَى المَقَامِ الثَّانِي، وَهُوَ: دَوَامُ التَّحْدِيقِ بِالبَصِيرَةِ إِلَى قُرْبِ اللهِ مِن عَبْدِهِ، وَمَعِيَّتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ.

وَقِيلَ: بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَلْيَعْبُدِ اللهَ عَلَى أَنَّ اللهَ يَرَاهُ وَيَطَّلِعَ عَلَيْهِ، فَلْيَسْتَحِ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اليَقِينِ: «اتَّقِ اللهَ أَنْ يَكُونَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكَ».

وَهِيَ كَلِمَةٌ صَادِعَةٌ، تَصْدَعُ القَلْبَ وَتُفَتِّتُهُ.

((اتَّقِ اللهَ أَنْ يَكُونَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكَ)): يَعْنِي يَتَحَرَّزُ المَرْءُ مِنَ المَعَاصِي بِنَظَرِ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ، وَإِذَا خَلَا فَعَلَ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَجْعَلُ اللهَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَزَّلَ نَظَرَ اللهِ إِلَيْهِ مَنْزِلَةَ نَظَرِ المَخْلُوقِينَ إِلَيْهِ؛ لَتَحَرَّزَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي الخَلْوَةِ كَمَا تَحَرَّزَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي الجَلْوَةِ.

وَلَكِنْ يَتَحَرَّزُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي الجَلْوَةِ وَيَجْتَرِئُ عَلَيْهَا فِي الخَلْوَةِ، فَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَ اللهَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُبَالِ بِنَظَرِ اللهِ إِلَيْهِ!!

وَقَالَ بَعْضُهُم: «خَفِ اللهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، وَاسْتَحِ مِنَ اللهِ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ».

وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

وَيَتَفَاوتُ أَهْلُ هَذَا الْمَقَامِ فِيهِ -يَعْنِي مَقَامَ الإِحْسَانِ- بِحَسَبِ قُوَّةِ نُفُوذِ البَصَائِرِ.

  

المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّة وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الزَّوَاجِ الذُّرِّيَّةُ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: مُرَاعَاةُ حُقُوقِ إِخْوَانِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
  إِيمَانُ الْأُمَّةِ وَوَحْدَتُهَا سَبِيلُ عِزَّتِهَا وَحِمَايَةِ مُقَدَّسَاتِهَا
  مِنْ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَّةِ: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ
  الْفَرَحُ الشَّرْعِيُّ فِي الْعِيدَيْنِ
  الْإِسْلَامُ دِينُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
  النِّفَاقُ دَاءٌ خَطِيرٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ
  الْمَوْعِظَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((رَمَضَانُ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ))
  مِنْ سُبُلِ الْقَضَاءِ عَلَى إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: الْعِلَاجُ بِالْوَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالطِّبِّيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ
  الشَّبَابُ وَحَمْلُ أَمَانَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَنَمَاذِجٌ مِنْ خَيْرِ الْبَشَرِ
  اسْتِقْبَالُ الْعَشْرِ بِالِاجْتِهَادِ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَسَدَادِ الدُّيُونِ
  الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ
  الدرس السادس : «الأَمَانَةُ»
  وَاجِبُ الْعَبْدِ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ
  الدرس السادس والعشرون : «عِيشُوا الوَحْيَ المَعْصُومَ»
  • شارك