مِنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ وَمَقَاصِدِهِ


 ((مِنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ وَمَقَاصِدِهِ))

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَجَعَلَ لِلصِّيَامِ فَوَائِدَ عَظِيمَةً، وَمُمَيِّزَاتٍ جَزِيلَةً، يَنَالُ الْمُسْلِمُ -بِإِذْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- إِذَا مَا أَتَى بِهَا الرِّضْوَانَ عِنْدَ اللهِ، مِنْ ذَلِكَ:

*أَنَّ التَّقْوَى ثَمَرَةُ الصَّوْمِ:

لَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى الْحِكْمَةَ مِنْ فَرْضِ الصِّيَامِ؛ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].

أَيْ: فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الصِّيَامَ كَمَا فَرَضْنَاهُ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ، لَعَلَّكُمْ بِأَدَائِكُمْ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ تَنَالُونَ دَرَجَةَ التَّقْوَى، الَّتِي هِيَ أَسْمَى الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَاهَا، وَأَرْفَعُ الْمَنَازِلِ وَأَفْخَمُهَا، وَبِذَلِكَ تَكُونُونَ مِمَّنْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عليمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

وَالتَّقْوَى: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ.

وَالصِّيَامُ الَّذِي لَا يُثْمِرُ التَّقْوَى حَابِطٌ فَاقِدُ الْقِيمَةِ؛ كَالزَّرْعِ الَّذِي لَا مَحْصُولَ لَهُ آخَرَ الْمَوْسِمِ.

فَوَا أَسَفَاهُ! فِيمَ كَانَ -إِذَنْ- حَرْثُ الْأَرْضِ، وَالسَّقْيُ، وَالتَّسْمِيدُ، وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَطُولُ الضَّنَا، وَاحْتِمَالُ الْعَنَا؟!!

*إِذَا أَخَذَ الْإِنْسَانُ بِهَذَا الْفَرْضِ الْعَظِيمِ -كَمَا يُحِبُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-؛ حَقَّقَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَأَتَى بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

*الْإِنْسَانُ إِذَا صَامَ صِيَامًا صَحِيحًا؛ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.

مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّسُولُ ﷺ: كَقَوْلِ الزُّورِ، وَالْعَمَلِ بِهِ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) : ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).

وَالْإِنْسَانُ يَدَعُ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لِعَارِضِ الصَّوْمِ، فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا عَارِضًا، وَهِيَ مَا أَحَلَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَيَتْرُكُ الشَّهَوَاتِ؛ كَالْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ، وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْمُحَرَّمَاتِ.

وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاقِبَ ذَلِكَ فِي الْوَسَائِلِ الَّتِي جَدَّتْ فِي الْحَيَاةِ الْمُعَاصِرَةِ؛ كَالْهَاتِفِ النَّقَّالِ، وَكَمَا يَكُونُ فِي الْمِذْيَاعِ، وَفِي التِّلْفَازِ، وَفِي الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِيَّةِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ، يُكِبُّونَ عَلَيْهَا كَمَا يُكِبُّ الْعَابِدُ عَلَى صَنَمِهِ!!

وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْهُمْ تَقْوَاهُمْ، وَتَسْتَلِبُ مِنْهُمْ إِيمَانَهُمْ، وَتُعَلِّمُهُمُ الْكَذِبَ، وَالنِّفَاقَ، وَالْخِدَاعَ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي جَدَّتْ؛ فَإِنَّهَا -بِلَا شَكٍّ- تُؤَثِّرُ فِي حَيَاتِهِ؛ فَضْلًا عَنْ تَأْثِيرِهَا فِي صِيَامِهِ.

*وَالنَّاسُ إِذَا صَامُوا الشَّهْرَ؛ اجْتَمَعُوا جَمِيعًا كَأُمَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ يَأْكُلُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيَصُومُونَ مُمْسِكِينَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

*وَيَشْعُرُ الْغَنِيُّ بِنِعْمَةِ اللهِ، فَيَعْطِفُ عَلَى الْفَقِيرِ، وَيُقَلِّلُ مِنْ مَزَالِقِ وَوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ .

*وَشَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الصَّوْمِ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، فَفِي رَمَضَانَ صَبْرٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَذَّاتِ، وَعَلَى قَدْرِ الصَّبْرِ يَأْتِ الْأَجْرُ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

*وَتَأْتِي مَغْفِرَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلصَّائِمِينَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

*وَالصَّوْمُ يَمْنَعُ مِنْ غِشْيَانِ الرَّذَائِلِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ - وَالْجُنَّةُ: الْوِقَايَةُ- فَلَا يَرْفُثُ وَلَا يَجْهَلُ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ؛ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ -مَرَّتَيْنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ-)) .

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلْعِبَادَاتِ مَقَاصِدَ، وَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا بَعْضَ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، وَالْإِنْسَانُ عِنْدَمَا يَأْتِي بِالْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ يَأْتِي بِهَا مُمْتَثِلًا، مُحْتَسِبًا الْمَشَقَّةَ الَّتِي يُلَاقِيهَا وَالْعَنَتَ، كَمَا يَكُونُ فِي الصِّيَامِ إِذَا أَتَى فِي أَيَّامِ الْحَرِّ؛ فَعَلَى الظَّمَأِ وَشِدَّةِ الْعَطَشِ، وَعَلَى الْمُعَانَاةِ فِيهِ، عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ يَكُونُ الْأَجْرُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا مَا فِيهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ، عَلِمْنَا مِنْهَا مَا عَلِمْنَا، وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَنَّنَا نَتَعَبَّدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِالْإِتْيَانِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةِ الْمَعْنَى، بِمَعْنَى أَنَّنَا نَتَعَبَّدُ بِهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا نَبْحَثُ عَنِ الْعِلَلِ.

لَا نَقُولُ: لِمَ فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ خَمْسًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؟

لِمَ لَمْ تَكُنْ زِيَادَةً عَنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؟

فَالْحِكْمَةُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَرَضَ ذَلِكَ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَغْيِيرِ سُلُوكِهِ، وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْإِتْيَانِ بِالْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نُفَتِّشَ فِي قُلُوبِنَا، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَعْظَمُ.

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْآفَاتِ الَّتِي تُمَازِجُ الْقُلُوبَ وَتُخَالِطُ الْأَرْوَاحَ، حَتَّى يُخَلِّصَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ مَهْمَا كَثُرَ مَعَ هَذَا الشَّوْبِ لَا يُتَقَبَّلُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَمَلُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا بِإِخْلَاصٍ وَصِدْقٍ؛ تَقَبَّلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

المصدر:فَضْلُ الصِّيَامِ وَسُلُوكُ الصَّائِمِينَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  فَضْلُ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ
  وُجُوبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمِيَاهِ وَعَدَمِ الْإِسْرَافِ فِي اسْتِخْدَامِهَا
  دِينُ اللهِ هُوَ دِينُ الْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ
  مَبْنَى الْعَلَاقَاتِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى الْعَدْلِ
  دَوَاءُ الْقَلْبِ فِي مَحَبَّةِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-
  حَثُّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الزَّوَاجِ فِي سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ
  مِنْ ثَمَرَاتِ بِرِّ الْأُمِّ: مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَالْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ
  فَارِقٌ بَيْنَ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ لِلدِّينِ وَتَجْدِيدِ الدِّينِ!!
  مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ
  حِيَاطَةُ الشَّرْعِ لِلْعَقْلِ
  مِنْ مَعَالِمِ الْبِرِّ بِالْأَوْطَانِ: حِمَايَتُهَا مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمَشْبُوهَةِ وَالْهَدَّامَةِ
  رِسَالَةٌ أَخِيرَةٌ مُهِمَّةٌ وَجَامِعَةٌ إِلَى الأُمَّةِ المِصْرِيَّةِ خَاصَّةً
  حَالُ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ
  الصَّائِمُونَ الْمُفْلِسُونَ
  حَدَثُ تَحْويلِ القِبْلَةِ
  • شارك