عِزُّ المُؤْمِنِ فِي اِسْتِغْنَائِهِ عَنِ النَّاسِ


عِزُّ المُؤْمِنِ فِي اِسْتِغْنَائِهِ عَنِ النَّاسِ

((وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَأَنَّ عِزَّهُ فِي اِسْتِغْنَائِهِ عَنِ النَّاسِ)): أَنْ يَكُفَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَاجَتَهُ؛ حَتَّى لَا تَكُونَ مَمْدُودَةً إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّمَا تَبْسُطُ يَدَيْكَ لَهُ وَحْدَهُ، وَتَطْلُبُ مِنْهُ وَحْدَهُ.

 وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ قَدْ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَلَّا يَسْأَلَ الْوَاحِدُ أَحَدًا مِنَ الخَلْقِ شَيْئًا، فَرُبَّمَا وَقَعَ مِنْ أَحَدِهِمْ سَوْطُهُ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ، فَأَنَاخَهَا، ثُمَّ نَزَلَ فَالْتَقَطَهُ، فَيُقَالَ لَهُ: فَهَلَّا أَمَرْتَنَا حَتَّى نَأْتِيَكَ بِهِ، وَلَا تُعَنِّ نَفْسَكَ بِهَذَا الْبُرُوكِ لِلنَّاقَةِ، ثُمَّ هَذَا النُّزُولِ عَنْهَا، ثُمَّ هَذَا الانْحِنَاءِ لِالْتِقَاطِ السَّوْطِ، فَهَلَّا أَمَرْتَنَا فَنَاوَلْنَاكَهُ؟!

فَيَقُولُ: إِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ قَدْ عَاهَدَنَا أَلَّا نَسْأَلَ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ شَيْئًا.

 وَإِنَّمَا نَسْأَلُ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَالَّذِي عِنْدَهُ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَاذَا يَمْلِكُ النَّاسُ مَهْمَا مَلَكُوا، مَاذَا يَمْلِكُونَ؟!!

إِنَّمَا هُمْ يَمْلِكُونَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا مَلَّكَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَلْنَرْفَعْ حَوَائِجَنَا إِلَيْهِ، وَلِنُنْزِلْ حَاجَاتِنَا بِهِ؛ فَهُوَ لَا يَرُدُّ سَائِلًا.

 وَإِذَا سَأَلْتَهُ فَإِنَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَا بُدَّ أَنْ يَحْبُوَكَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُعْطِيَكَ، وَلَكِنَّنَا قَوْمٌ مُسْتَعْجِلُونَ؛ لِأَنَّنَا إِذَا طَلَبْنَا شَيْئًا فَإِنَّنَا نُرِيدُ أَنْ يُحَقِّقَهُ اللهُ لَنَا بِعَيْنِهِ كَمَا طَلَبْنَاهُ.

 وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي أُصُولِ الْعَطَاءِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ؛ فَإِنَّهُ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّهُ ((مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَاجَةً مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ؛ إِلَّا أَعْطَاهُ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا سَأَلَ، وَلَا يُعْطِيَهُ شَيْئًا، وَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا سَأَلَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ الْبَلَاءِ بِقَدْرِ مَا سَأَلَ)).

فَأَنْتَ مُعْطًى عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَنْتَ مَحْبُوٌّ مِنَ عَطَاءِ الْكَرِيمِ الجَوَادِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

 فَلْتَرْفَعْ حَاجَتَكَ إِلَيْهِ، وَلْتُنْزِلْ حَوَائِجَكَ بِهِ وَحْدَهُ؛ فَاِقْصِدْهُ؛ فَإِنَّ بَابَهُ لَا يُرَدُّ عَنْهُ سَائِلٌ، وَلَا يُخَيَّبُ لَهُ قَاصِدٌ، وَإِنَّمَا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الحَكِيمُ.

 وَهُوَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُعْطِي عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وَرُبَّمَا طَلَبْتَ شَيْئًا كَانَ فِيهِ هَلَاكُكَ، فَإِذَا كَفُّهُ عَنْكَ فَقَدْ أَعْطَاكَ، فَهَذَا عَطَاءٌ وَإِنْ بَدَا سَلْبًا، وَإِنْ ظَهَرَ حِرْمَانًا، وَلَكِنَّهُ عَطَاءٌ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ عَطَاءٌ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ.

وَاللهُ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ، فَإِذَا حَمَاكَ مِنَ الدُّنْيَا؛ فَكَالْمَرِيضِ الَّذِي تُحِبُّهُ، تَحْمِيهِ مِمَّا يَشْتَهِيهِ مِنْ طَعَامٍ، وَشَرَابٍ، وَمَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ وَأَنْتَ تُحِبُّهُ.

 كَالْمَرِيضِ الَّذِي تُحِبُّهُ، تَمْنَعُ عَنْهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَأَنْتَ تُحِبُّهُ، وَإِنَّمَا تَمْنَعُهُ؛ لِأَنَّكَ تُحِبُّهُ؛ لِأَنَّكَ لَوْ مَكَّنْتَهُ مِنْ هَذَا الَّذِي يُحِبُّهُ؛ لَقَضَى وَمَضَى، وَكَانَ فِي ذَلِكَ هَلَاكُهُ، فَأَنْتَ لَمْ تَمْنَعْهُ بُغْضًا وَلَا بُخْلًا، وَإِنَّمَا مَنَعْتَهُ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ؛ لِمَحَبَّتِكَ إِيَّاهُ، وَلِتَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ، وَالْقِيَامِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ.

وَللهِ المَثَلُ الْأَعْلَى؛ فَإِنَّ اللهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ تَسْأَلُهُ فَلَا يُعْطِيكَ، لَا تَحْسَبَنَّ أَنَّكَ لَا مَنْزِلَةَ لَكَ عِنْدَهُ، وَمَنْ أَدْرَاكَ؟! لَعَلَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرَادَ أَنْ يَحْمِيَكَ كَمَا تَحْمِي مَرِيضَكَ أَنْتَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، فَلَمْ يُعِطْكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْطَاكَ أَرْدَاكَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ عَطَاءً مَا أَعْطَاكَ، بَلْ يَكُونُ سَلْبًا وَحِرْمَانًا فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ.

((وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَأَنَّ عِزَّهُ فِي اِسْتِغْنَائِهِ عَنِ النَّاسِ)).

المصدر: وماذا بعد رمضان؟

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  تَفَاعُلُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ الْقُرْآنِ الكريم
  أَدِلَّةُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَحُكْمُ مَانِعِهَا
  الِاسْتِغْفَارُ عَقِيبَ الطَّاعَاتِ وَحِكْمَتُهُ
  الْمَوْعِظَةُ الثَّلَاثُونَ : ((وَدَاعُ رَمَضَانَ وَسُنَنُ العِيدِ وَآدَابُهُ))
  نِظَامٌ مُحْكَمٌ لِلْمُعَامَلَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ
  الْوَفَاءُ لِلْوَطَنِ
  مِنْ مَعَالِمِ الْبِرِّ بِالْأَوْطَانِ: الدِّفَاعُ عَنْهُ وَالْحِفَاظُ عَلَيْهِ
  دَلَائِلُ أَهَمِّيَّةِ الْمَاءِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ
  شَهَادَاتُ الْمُنْصِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِرَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَالْإِسْلَامِ
  تَرْشِيدُ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ سُبُلِ حَلِّ الْأَزْمَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ
  ثَمَرَاتُ مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ بِالرَّحْمَةِ وَالتَّسَامُحِ
  الْوَفَاءُ بِعَهْدِ اللهِ وَمِيثَاقِهِ
  الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ الْمَشْرُوعُ مِنْ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَمِ
  الْعَدْلُ هُوَ أَسَاسُ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ
  • شارك